العصر الحجري الوسيط (الميزوليت)
تبدلت
الأدوار منذ زهاء 12000 ق.م. واختفت الحضارة المجدلانية الرائعة في
أوروبا، وعادت الرّيادة من جديد إلى الشرق العربي، الذي أظهر استقلالية
أهّلته أن يشغل الدول الحاسم في الانعطاف التاريخي، الذي شهدته الإنسانية
وذلك بعدما مضى عصر الحضارات ذات الانتشار العالمي الواسع (الآشولية،
الموستيرية، اللفلوازية) لتقوم أخرى ذات أصول وفروع محلّية.
لقد خرج
الإنسان من المغاور، وبنى مساكنه في العراء وطوّرها، وتزايد السكان وتجمعوا
مشكلين «قرى» وابتكروا أسلحة وأدوات وأنشطة جديدة، أسهمت في تقدّم إنتاجهم
الاقتصادي ورفع سويتهم الاجتماعية والروحية والفنية.
وسادت في القسم
الأول من هذا العصر الحضارة الكبارية (مغارة الكبارا في فلسطين). وانتشر
الكباريون من الساحل حتى الصحراء (الملجأ الثالث في
يبرود،
جيرود،
الكوم). وكانوا أول من صنع الأدوات (النصيلات) الحجرية الصغيرة جداً،
المرتبطة ببدء استعمال الأدوات المركبة من الحجر (حدّ عامل) والعظم أو
الخشب (قبضة). ثم أخذت هذه الأدوات أشكالاً هندسية منتظمة نسميها «الكباري
الهندسي»، الذي تنوّعت بانتهائه آثار ما قبل التاريخ بعدما كانت في معظمها
أدوات ححرية.
لقد وصلت العصور المطيرة إلى نهايتها، وبدأ القسم الثاني
من الراعي (الهولوسين)، الذي لا يزال مستمراً حتى الآن، وتحسّن المناخ
وأصبح أكثر دفئاً، مما ساعد على ظهور الحبوب (قمح، شعير) الحيوانات (بقر،
ماعز، غنم، غزال، حصان...) البرية، التي استغلّها الإنسان جيداً وشكّلت
الأساس المادي المباشر للتحوّل الهام في تاريخه، وبدأ في 10000ق.م. زمن
الحضارة النطوفية (وادي النطوف في فلسطين)، التي انتشرت بأشكال مختلفة من
النيل حتى الفرات.
لقد أقام النطوفيون قرى الصيادين الأولى (المريبط،
أبو هريرة)، وسكنوا بيوتاً صغيرة (من غرفة واحدة)، محفورة في الأرض،
جدرانها من الطين والأغصان، وسقوفها من القش والخشب والجلود. وبقوا ـ رغم
استقرارهم النسبي ـ يعتمدون على الالتقاط والصيد البريّين، كما استفادوا
بمهارة من الأسماك والطيور، بعدما صنعوا لذلك الأدوات والأسلحة المناسبة،
التي بقيت ذات أشكال صغيرة هندسية، شذّبوها وجهّزوا منها أدواتهم المركبة،
كالمناجل والخطاطيف، واستخدموا العظام في صنع الإبر والمخارز وأدوات
الزينة(كالخرز والتمائم)، كما صنعوا الأدوات الثقيلة، كالرحى والأجران (في
جيرود،
الطيبة،
الكوم،
صيدنايا...)
وغيرها من مواد الأثاث الأخرى، التي تشير إلى مجتمعات منظمة، توضّحت
سماتها المحلّية، وقامت علاقات اقتصادية واجتماعية أكثر رقياً وغنى مما كان
في
العصر الحجري القديم.