العصر الحجري النحاسي (الكالكوليت) وأطواره في سورية:
تعرَّف
الإنسان على معدن النحاس في بداية الألف الخامس قبل الميلاد، فصنع منه بعض
أسلحته وأدواته، التي بقي معظمها يعتمد على مادة الحجر، ومن ذلك تسمية:
العصر الحجري النحاسي، الذي استمر حتى نهاية الألف الرابع قبل الميلاد.
لقد
حدثت آنئذٍ تطورات هامة، توضح الأرضية المادية والروحية المباشرة للعصور
التاريخية. فقد تطوّر البناء وظهرت لأول مرة المباني الكبيرة ذات النفع
العام (المعابد) واستخدم اللبن والحجر وتحسَّنت وسائل الزراعة وأصبحت أكثر
إنتاجية، كما عرف الري المنظم بوساطة الأقنية، واستنبتت زراعات جديدة
(كالعدس والحمص والفول وأشجار الكرمة والتين والزيتون)، وتطوّرت صناعة
الأدوات الحجرية والمعدنية واستخدم للمرة الأولى الدولاب والفرن في صنع
الأواني الفخارية، التي تخصّصت بها فئات معيّنة (الحرفيون)، وصنعت الأختام
المسطّحة لدمغ البضائع (أو كتمائم)، حيث فاض الإنتاج عن الحاجة وتبودلت
السلع وظهرت فئة التجار، وتقدم التنظيم الاجتماعي، وتوضّحت معالم الأسرة
والعشيرة والقبيلة، وتعمَّق التخصّص وتقسيم العمل، وبدأت تتوضّح معالم
التقسيم الطبقي للمجتمع.
وتميّزت
سورية من جديد بخاصة محلّية، بظهور أوان فخارية جديدة لأول مرة في موقع
تل حلف في الجزيرة العليا، الذي أعطى اسمه للحضارة الحلفية، التي سادت في الألف
الخامس قبل الميلاد. وغطت المنطقة من شمال الرافدين شرقاً، حتى الساحل
غرباً، ومن الأناضول شمالاً حتى البقاع جنوباً. وبدأت مرحلة توحّد حضاري
واسع النطاق، يُتعرّف عليه من خلال الأواني الفخارية، التي أصبحت من أهم
السمات المميزة للحضارات، وقد بلغ الحلفيون القمة في صنع هذه الأواني من
الفخار الرقيق الجيّد الشيّ والمتعدّد الألوان (بنّي وأسود وأحمر) والمزخرف
بأشكال هندسية وإنسانية وحيوانية رائعة، وقد تخصّصت في صنعه مراكز (شكر
بازار،
تل عقاب،
تل حلف)) وصدّرته إلى مناطق أخرى.
وتطوّر
الحفيّون عبر مراحلهم الباكرة والوسطى والأخيرة بشكل متزامن، ولكنه مستقل،
مع جيرانهم (في العراق)، فسكنوا في بيوت مستطيلة أو مربّعة أو دائرية
(موقع شمس الدين، طنيرة)، مبنية من اللبن على أساس حجري، ولها سقوف خشبية
وأرضها مفروشة بالجص وتتّجه أبوابها جنوباً أو شرقاً، وهي مزوّدة بفتحات
ونوافذ للتهوية والإنارة، وفيها مواقع ومصاطب وتنانير، ومقسّمة حب وظائفها
(مسكن، مخزن، إسطبل). وبقيت الزراعة وتربية الحيوانات مصدر رزقهم الأول.
وتعمّق الفصل بين المجتمع الزراعي (الحضري) والمجتمع الرعوي (البدوي)،
اللذين قامت بينهما علاقات تبادل المنتجات، كما تجسَّدت الفنون والمعتقدات
بصنع تماثيل إنسانية صغيرة مختزلة، تتضخّم فيها عناصر الأمومة، وتزيّن
بالألوان (الربّة الأم)، وتماثيل حيوانية (الثور)، وحمل التمائم والأختام
والحلي المنوّعة الأشكال.
وازدهرت في النصف الأول من الألف الرابع قبل
الميلاد في سورية حضارة العُبَيْديين (موقع تل العُبَيْد جنوب العراق)،
الأوسع انتشاراً، التي امتدت من الخليج العربي جنوباً حتى البحر المتوسط
شمالاً. وإن الكثير من المواقع ذات الصفات الانتقالية المشتركة بين حضارتي
تل حلف والعبيد (تل العقاب،
تل حلف،
رأس شمرا...)،
يجعلنا نعتقد بأن حضارة العبيد تطوّرت محلياً. وصنع العبيديون أوان فخارية
أقل جودة من سابقيهم، لها لون واحد (برتقالي فاتح غالباً) ونادراً ما تكون
مصقولة، وزخارفها في معظمها هندسية الأشكال، ولكنهم استخدموا لأول مرة
الدولاب؛ فأصبحت أوانيهم أكثر تناسقاً واستدارة وتنوعاً، كما حققوا تحوّلات
هامة في عدة مجالات وفي مقدمتها العمارة. فأشادوا المعابد، التي تشير إلى
انعطاف هام في البناء، يسميه بعضهم «الثورة المعمارية» على غرار الثورة
الزراعية سابقاً، كما صنعوا لأول مرة تماثيل صغيرة للرجال، وطوّروا الأختام
والفنون الأخرى.
وإن الفخار المتعدِّد الألوان (مرحلة العمق)، هو
المؤشِّر الهام على مجتمعات حلف والعبيد، التي احتلت منطقة واسعة في سورية
امتدت من الخابور شرقاً، حتى الساحل غرباً، ومن
جرابلس شمالاً حتى
حمص جنوباً. وعاشت في جنوب هذه المنطقة في الألفين الخامس والرابع قبل الميلاد، شعوب تابعت تقاليد
العصر الحجري الحديث (في فلسطين والأردن) لم تعرف الفخار الملوّن، بل العادي المزيّن بالخدوش
والطبعات المنوّعة، وسكنت في بيوت صغيرة من الطين والحجر (تل الخزامي) أو
كبيرة من البازلت (موقع المجامع)، وكان لها فنونها ومعتقداتها، تدلّ عليها
الأشكال والرموز المختلفة، التي نقشت أو رسمت على أدوات الاستعمال اليومي.
وازداد
في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، التباين في وتائر تطور
مجتمعات العصر الحجري النحاسي السوري، فدخل بعضها في عصر جديد، أخذ اسمه من
مدينة الوركاء/أوروك في جنوب بلاد
ما بين النهرين، حيث انطلقت
الحضارة السومرية، التي اخترعت نظام الكتابة، وأقامت أول تنظيم اجتماعي سياسي في العالم (الشكل الأول للدولة).
لقد
تراجع صنع الفخار الملوّن، وظهر فخار عادي فاتح اللون (أحمر أو رمادي)،
مصنَّع على الدولاب ومشوي في الفرن، وأخذت الأواني أشكالاً متعددة، أكثرها
من نموذج الطاسات التي تشبه الناقوس.
واستمرت العمارة في تطورها وظهرت
المدن المسورة، وأخذ المعبد نمطاً معمارياً محدّداَ ثلاثي العناصر: صالة
رئيسة في الوسط، يحيط بها جناحان من الغرف، وأصبح مركز النشاط الاقتصادي
والديني والإداري المنظّم، بعدما نمت القوى المنتجة وتعقّد الوضع الاجتماعي
والمادي وظهرت طبقة «السّدنة-الحكام»، وتقدّمت الفنون (وخاصة النحت)، وصنع
لأول مرة الختم الأسطواني متطوراً عن سابقه المسطح.
لقد قامت
المستوطنات ذات الطابع السومري على امتداد الطرق التجارية الهامة، بين دولة
السومريين في الجنوب وسواحل البحر المتوسط وبلاد الأناضول شمالاً. وظهرت
التأثيرات الرافدية في
سورية آنئذٍ أكثر من أي وقت مضى. وأفضل مثال على ذلك هو موقع حبّوبة الكبيرة في
حوض الفرات الأوسط، حيث اكتشفت آثار مستوطنة كبيرة (18 هكتاراً) محفوظة
جداً، تعطينا فكرة واضحة عن بناء المدن في عصر الوركاء الأوسط 3400ق.م.
وكان
يحمي المدينة من كل جوانبها (عدا جهة الشرق حيث الفرات)، سور مزدوج وعريض
مبني من اللبن المستطيل، تخترقه بوابتان رئيستان، وتدعمه أبراج دفاعية
وعضادات بارزة وكزيّنة. وتقوم مساكن المدينة بمحاذاة شوارع رئيسة وفرعية
مستقيمة، وروعي فيها نظام الأقنية وتصريف المياه والتهوية والإنارة، وهي
مبنية على الطراز السومري المعروف بـ (ثلاثي العناصر)؛ أي صالة كبيرة في
الوسط (فيها موقد) ويحيط بها من الجانبين جناحان، فيهما غرف أصغر تنفتح على
الخارج، أو على طراز آخر محلّي مؤلف من قسمين فقط: غرفة كبيرة تطل على صحن
داخلي. ووجدت في القسم الجنوبي
لحبوبة الكبيرة (المسمى تل قناص)،
ثلاثة معابد هامة مشيّدة فوق مصطبة مرتفعة على نظام ثلاثي العناصر،
ومزوّدة بمصاطب أمامية، وأدراج توصل إلى السطح أول إلى طابق آخر. ووجدت
فيها أوان فخارية وأدوات زراعية ومنزلية وصناعات نفيسة وأسلحة، وأهم من كل
هذا هو الرُقم الطينية المتنوّعة الحجوم والأشكال، دوّن عليها إشارات ورموز
حسابية تمثِّل المرحلة الأولى للكتابة، منذ النصف الثاني للألف الرابع قبل
الميلاد. ولهذا العصر تنسب مستوطنة
جبل عارودة في حوض الفرات الأوسط، حيث يقوم على قمة الجبل معبدان كبيران يشكلان
مجمعاً واحداً، وقد بنيا بالطراز الثلاثي العناصر أيضاً. وزيّنا بالمسامير
المخروطية الملوّنة، ويعاصرهما «معبد العيون» في
تل براك في الجزيرة، حيث وجدت تماثيل صغيرة (حوالي 300) ذات عيون مضخمة، أعطت
اسمها للمعبد الذي زيّن محرابه بالمعادن الثمينة، مما أكسبه صفات محلّية
مستقلّة رغم تشابهه مع المعابد الرافدية.
لم تستمر الحياة طويلاً في
مستوطنات حوض الفرات الأوسط (100-150عام فقط)، وهذا ما يثير الجدل حول
طبيعتها ودورها فيما إذا كانت مجرد محطات تجارية للسومريين، أم مراكز
استيطان أصلية تطوّرت بشكل متواز مع بلاد ما بين النهرين، مستفيدة من
موقعها الجغرافي وخيراتها الاقتصادية، لتشغل دوراً هاماً في تاريخ المنطقة.
وإن مما يعزِّز الاحتمال الثاني وجود مواقع تنسب للعصر نفسه (تل براك)،
استمرت فيها الحضارة، بلا انقطاع، في الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد
(عصر البرونز). وقدمت رموزاً حسابية وكتابة تصويرية، تشكل المرحلة السابقة
للكتابة المسمارية في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، ومواقع أخرى خارج
نطاق الطرق التجارية بين الشمال والجنوب (
موقع الكوم).
وبعد هجر المستوطنات ذات الطابع السومري، وقف تطورّ الكتابة هنا، ثم عاد بعد انقطاع استمرّ حوالي ألف عام، وظهرت وثائق «
إبلا» الكتابية، ودخلت
سورية العصور التاريخية منذ الربع الثالث للألف الثالث قبل الميلاد.
منقول