في روايته الجديدة "دموع الإبل" الصادرة عن دار "الناشر" يواصل محمد
إبراهيم طه حفره في عالم القرية المصرية، حيث يحكي عن عالم البدو،
بمعتقداتهم، وطقوسهم، والمشاكل التي تنجم عن التقاطع بين العالمين.
بطل الرواية سالم لم يستطع الثورة علي مصيره، فبدلا من أن ينجح في العمل
الأوبرالي، أو حتي في عالم الجمٌالين كان دائما مشدودا إلي المرأة القوية
النورانية سلمي وعالمها، الزار ونسائه، والجني الذي يتلبسهن، والرجال الذين
عشقوها.
وجد سالم نفسه في قلب أساطير وحكايات لا تنتهي، وخرج ليبحث عن مرج عامر،
وانتهت رحلته بالفشل، والموت، وكأن الباب الذي دخل منه، هو الباب نفسه الذي
خرج منه.
محمد إبراهيم طه قاص وروائى وطبيب له العديد من الأعمال الروائية والقصصية
منها "العـابرون"، "الركض فى مساحة خضراء"، "توتة مائلة على نهر" و"سقوط
النوار" .
يذكر أن طه حصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 2001، كما حصل على جائزة
الشارقة للراوية عن رواية "سقوط النوار" وجائزة يوسف إدريس للقصة العربية
لعام 2008.
يقول المؤلف عن روايته في حوار أجراه معه حسن عبد الموجود بصحيفة "أخبار
الأدب" الإسبوعية المصرية الأغاني تطرب الإبل وتساعدها علي المسير في
الصحراء وتجعلها تذرف دموعها، وهذا هو ما سيتبادر للأذهان من العنوان، ولكن
النساء هن المقصودات بالعنوان في الأساس، النساء اللواتي يطربهن سالم،
ويذهبن إلي زار سلمي، الهدف كان التركيز علي صوت سالم والإبل موجودة كمفردة
من مفردات الحياة الصحراوية البدوية.
ويضيف: هذا العالم عاينته بطبيعة الحال في المكان الذي نشأت به، والقري
المصرية عموما تعجٌ بالزارات الشعبية، وفرق المداحين وليالي الصوفية، وقد
ظهر هذا العالم في أعمالي السابقة، ولكن الجديد هو عالم البدو المتاخم
لعالم الفلاحين، كل القرى المصرية لها ظهير صحراوي تنتشر به جماعات من
البدو التي تقيم قرى وتمارس فيها نشاطا زراعيا في الوقت الذي تحافظ فيه
جيدا علي عاداتها وتقاليدها.
وقد قمت برحلات لهذه القرى وقرأت كتبا كثيرة عن البدو في حلٌهم وترحالهم
لكن المنطقة المذكورة في الرواية لا تمثٌل الواقع الفعلي بدروبها ونجوعها
وستلاحظ أن لغة الحوار في النصف الأول من الرواية عامية لأنها خاصة
بالفلاحين لكن لغة البدو في النصف الثاني جاءت فصيحة إمعانا في عدم الإشارة
إلي بيئة بدوية بعينها.
ويضيف: البناء آخر شيء أفكر فيه، وأنا حينما أشرع في الكتابة أحوم حول
الفكرة وأجمع المادة وأبدأ في تخيٌل الشخصيات وعالمها بقدر الإمكان ثم أبحث
عن الإطار الذي يجمع هذا العالم من خلال تقنياتي كروائي، وإلى وقت متأخر
من الممكن أن أقوم بالتحوير في هذا العالم أو أقص منه أو أضيف إليه، ومن
الممكن أن ألغي هذا العالم إذا شعرت أنه يشبه عالم روائي آخر، أو حينما أجد
أنه عالم غير جميل، بعد ذلك أستقر علي السارد ووجهة النظر التي سيتم تقديم
الرواية من خلالها، في هذه اللحظات يكتمل العالم بالنسبة إليٌ، وأجلس مثل
مثٌال يضع اللمسات الأخيرة على منحوتته، رغم أنني لا أعرف لحظة الانتهاء
إلا من خلال حدسي!
ومن الرواية نقرأ:
،، لم أقصد حين غنيت أن أخدع الإبل المحملة بالبطيخ. كان قصدي أن تهون
المسافات، فلم أنتبه، وقد استغرقني الغناء، إلى أنني كان يجب أن أُريح
القافلة في ثلاثةٍ على الأقل من النجوع الاثني عشر التي مررت بها، فقيَّدني
الجمّالون بالحبال وظلّت حياتي مرهونة بعودة العافية إلى الإبل التي بركتْ
في إعياء ومطت أعناقها على الأرض. سألوني إذا لم أكن قد انتبهت إلى الدموع
التي كانت في عيونها، فقلت إنها كانت تهطل منذ خرجنا من أول نجع، لكنهم
أحكموا الكمامة على فمي.
طوال الليل وأنا أصغي إلى تنفس الإبل المشرفة على الهلاك، متوقعا بين لحظة
وأخرى انغراز السكين في عنقي، حتى سمعتُ مع الفجر بقْلَلَة إبل، فحل
الجمَّالون الكِمامة والعُصابة وقيديْ الرسغين والرجلين، ثم أطلقوني خارج
المهجع.
ظللت أجري في ضوء النجوم بلا هدى، لا يؤنسني إلا الضباب الذي لاح علي مشارف
القرى، وروائح الغيطان وملمس الطين تحت قدمي. تحسست آثار القيود،
فاستشعرتُ طعم الحياة التي كُتبتْ لي، وبدت هالات الضباب الجاثمة في الجو
مثل حلوى شعر البنت.
ـ لحد إمتى هحوش عنَّك الموت؟
تكلمت امرأة ثم مرت. كأنها تحدث نفسها. نبرة الكلام كانت معاتبة، ولم يكن
أحد قريبا من الموت مثلي. نظرات الجمالين كانت تشي بذلك، فالإبل إذا مرضتْ
تموت. لهثتُ خلفها وهي تبين وتختفي، والضباب النازل يختلط برائحة سبات آتية
من خلف الأبواب المغلقة، وحين صار بوسعي تبين ملامحها وهي تسير من شارع
إلى حارة، دخلتْ من باب موارب ثم أغلقَتْه.
ظللت أطرق الباب بلهفة، فانفتح عن كامل يوسف بعيونه المختلطة بالنوم.
ارتبكتُ، لكنه قال وهو يتثاءب:
ـ اتأخرت ليه؟
ثم طرق باب المندرة الجانبية، ونادى وهو في طريقه لحجرة داخلية ليكمل نومه:
ـ يا حاجة! سالم جالك.
ألجمَتْني الدهشة حين رأيت الحاجة سلمى في ملابسها البيضاء. عينان واسعتان
كعيني بقرة رضيعة، ووجه مستدير كمترد حليب، وضفيرتان محلولتان من أسفل
تستريحان على الصدر. سحبتْ من تحت فخذها حاشية مسند وأشارت لي بالجلوس،
فتذكرتُ أن كامل أخبرني أنها تريدني. خجلتُ من نفسي لأنني قلت له:" بُكْره
إن شاء الله" وفي نيتي ألا أجيء قبل أن ينتهي موسم البطيخ. تأملتني بهدوء
وقالت: "عامل إيه دلوقتي"، وفيما كان النور يشع من وجهها، تماما مثلما قال
حنا، من مفرق الشعر إلى المنحر ومنبت الثديين، قلت بخجل:
ـ الحمد لله.. إنت كنت خارجة بدري قوى كده ليه؟
ردت مستغربة:
ـ أنا..؟ من امتى وأنا باخرج ؟
***
تدور الرواية في العوالم البدوية
منذ بدأت أعي وهذا الباب مغلق. لا تغادر سلمى عتبته، ولا يعرف أحد عن
ملامحها غير ما تناقلته النسوة اللاتي دخلن عليها، ولا يذكر الرجال منها
سوى ما تحمله ذاكرة الصبا عن بنت في زيٍّ مدرسيٍّ مجسمٍ عند الخصر ضاق
فجأة، أو كبرت فجأة، فأعفاها الناظر إبراهيم منتصر من الالتزام به، وحضرت
بجلباب منزلي، لكنها ظلت تنضج، فأخذها من يدها إلى زوجته المرحومة الحاجة
صديقة، ففصَّلتْ لها جلبابا أسمر وطرحة سمراء للمدرسة، لكنها بلغت من
الفتنة حتى وهي تبكي ما دفع العمدة محمود أبو حبل أن يسير خلفها، ويطرق
الباب الذي دخلتْ منه عازما نفسه على شاي. في منتصف الكوب، صمت عفيفي فقال
العمدة: الفاتحة للنبي، ثم طلب البنت التي دخلت من هنا، وأشار إلى الباب،
وقبل أن يرد عفيفي، خرجت سلمى على غفلة وقالت:" دار العمدة لأ.. يا با"
فتلقَّتْ الكف الأول بصمت أذهل العمدة وقال لعفيفي إنها عيِّلة، لكنها
انقضت مع الكف الثاني الأشبه بخف الجمل على يده وقالت باستماتة:" دار
العمدة.. لأ.. خصيمك النبي" فارتبك عفيفي وانهال عليها بكفيه في جنون حتى
فكت يديها القابضتين على طوق جلبابها، فبان الشق الذي أحدثه سعيد ابن
العمدة منذ قليل أمام دار يوسف الطبال.
ورغم أنه لم يعرف إذا ما كان العمدة يطلبها لنفسه أم لابنه سعيد، فإنه خرج
إليه هادئا، وقال له: كل شيء نصيب، وأنه قرأ الفاتحة مع واحد آخر. حاول
العمدة ألا يبتلع الإهانة، وتساءل في سخرية إذا كان بإمكانه أن يعرف هذا
الواحد، فقال عفيفي بارتياح وهو يتنهد: كامل يوسف. قذف العمدة كوب الشاي من
يده وجأر:
ـ كامل بن يوسف الطبال!!.. أما إنك رجل واطي صحيح.
***
أفقتُ على سؤالها:
ـ إيه اللي عملته في الجمال امبارح؟
فاجأني السؤال، فلم يكن أحد قد علم بذهابي إلى العرب، كما أن أحدا هنا لم
يكن يعلم بما حدث للإبل، ولم أعرف إن كان سؤالها ينطوي على إدانة أم إعجاب،
لكنني بادرت بالدفاع عن نفسي:
ـ ما كانش قصدي.
ربتَتْ رأسي وقالت إنها تعرف، وأزاحت ضفيرتيها إلى الخلف ولفَّتْ الطرحة
حول وجهٍ منير، افتُتِنَ باستدارته سعيد أبو حبل فزنقها في حائط يوسف
الطبال ومزق ثوبها، وافتتن بحزنه محمود أبو حبل العمدة، فتبعها حتى البيت،
دون أن يعرف أحدهما ما فعله الآخر.
نادت بصوت خفيض على كامل الذي دخل منذ قليل ليكمل نومه، فوقف بالباب وتساءل
بهدوء:
ـ نعم يا حاجة؟
ـ سالم مش هيفطر؟
ـ يفطر.. من عينية يا حاجة.
لم يتغير كامل. هادئ ورزين، تطل من عينيه نظرة ضعف حتى وهو يبتسم. يؤدي كل
شيء برضا، فيقف في طابور العيش، وأمام مستودع الغاز، ويذهب إلى السوق ويخرج
إلى الدكاكين، ويجهز الطعام ويؤكل الطيور، ويكنس الشارع ويرش الماء أمام
دار ذات باب مغلق دائما، لم يركض بين جنباتها طفل، ويبوس كفه من الأمام
والخلف، وينظر إلى السماء برضا قائلا لمن يلمٍّح له بالزواج: إن أمنيته
كانت أن يجمعه بسلمى مكان واحد، وقد تحققت.
سألتني عما غنيتُ للإبل، فتذكرتُ الموت الذي كنت ذاهبا إليه. قلت للجمالين:
لا أعرف الطريق، فقالوا: الإبل تعرف، فسرت بأصدقائي العشرين على مدقات في
الرمال، حتى دفعتني وحشة الرمال إلى الغناء، فأنشدت:
ألفـين صلاة ع النبي.. ألفين صلاة ع الزين
مـدح الحبيب مكسبي.. والصبر آخره زين
كنت منهمكا في الغناء فلم أعِ أسماء النجوع التي مررنا بها، ولا كم من
الزمن مر حتى حدث ما حدث في كوم ربيع. قلت: قرابة نهار، وقال الجمالون:
نهاران وليلة. صاحبتني سلمى في الغناء. كانت تدور بنظراتها في السقف هائمة،
وحين تلاقت عينانا، ارتسمتْ على شفتيها ابتسامة، فدخلتُ في أغنية ثانية،
وسندَنا كامل من بعيد بالدُّف. كنا جالسيْن فلم أعرف متى وقفنا، ولا متى
انْضمَّ إلينا عابد بالناي. كانت الصاجات بين أصابعها تفرقع بلا ابتذال،
وأنا أنتقل من موال إلى آخر كأنما أهوي في منزلق، لا أملك القدرة على
التوقف، حتى صرنا كإبل مجهدة. حين لمعتْ الدموع في عينيها، تذكرتُ آخر ما
قلت للإبل في كوم ربيع، فأنشدتُ:
يا سيدة .. يا سيدااااة يا ام الشموع القايدة
يا اخت الحسن واخت الحسين يا بنت أكرم والداااااة
سألتني وهي تمسح الدموع، إن كنت أدري أنني كنت على مقربة من مرج عامر، ولو
لم أختم بمديح أم هاشم لدخلت الإبل إلى المرج، ولو دخلتْ لما رجعتْ. قلت
بدهشة: لم أدر، وكان المرج في رأسي منطقة مبهمة. نقطة معلقة في الفراغ لا
يمكن الوصول إليها، لكنه بحسب كلامها الذي تطابق مع كلام الجمالين صار
محددا، فقد مررت باثني عشر نجعا استعدتها نجعا نجعًا، وجمعت المسافة، لكنها
أوقفتني:
ـ اللي ياخد يومين وليلة في المرواح وساعتين في الرجوع ميتحسبش كده.
اندهشتُ كيف عرفتْ ما يدور بذهني، ودخل كامل بصينية الفطور، فعدلتُ عن
التفكير في المرج بهذه الطريقة، وكنت منذ خروجي بالإبل، لم أضع شيئا في
فمي. كان على الصينية الخبز وطبق البيض والجبن والبطاطس. كانت تضع الطعام
في فمي كطفل وأنا أنظر إليها بينما تتكلم بطمأنينة، يخرج الكلام من بين
شفتيها بلا مشقة هادئا يبعث على الاسترخاء والراحة، حتى فاجأتني:
ـ مش عايز تشتغل ليه معانا؟
توقفتُ عن المضغ، فقد كنت أخشى هذا السؤال، قلتُ في خجل:
ـ هاشتغل إيه يا حاجة؟
ـ ولا حاجة.. هتغني اللي غنيته للجِمال.
أومأتُ برأسي، وأنا أواصل المضغ، فصرختْ كطفلة على كامل فجاء ممتثلا: نعم
يا حاجة؟ قالت وهي تبتسم:
ـ سالم مش هيشرب شاي؟
ـ يشرب يا حاجة.. من عينية