الحديث عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ:
((سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ
الْبِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا
حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ))(صحيح
مسلم)
شرح الحديث الشريف : رياض الصالحين : باب حسن الخلق، " البر حسن الخلق "
لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسي
أيها الإنسان فُطِرت فطرة عالية، بحيث لو فعلت شيئاً سيئاً شعرت بالضيق،
ترددت، حاك هذا في صدرك، كرهت أن يطّلع عليه الناس، من دون علم ومعلومات،
من دون تدريس وتوجيه، من دون قراءة من دون خطابة، الله سبحانه وتعالى تفضّل
على الإنسان ففطره فطرة عالي، بحيث إذا أساء عذبته فطرته، مرة ثانية :
عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: ((سَأَلْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ
فَقَالَ : الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ ،
وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)) (صحيح مسلم)
عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الأَسَدِيِّ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِوَابِصَةَ : جِئْتَ تَسْأَلُ
عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ ؟ قَالَ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ: فَجَمَعَ
أَصَابِعَهُ فَضَرَبَ بِهَا صَدْرَهُ وَقَالَ: اسْتَفْتِ نَفْسَكَ ،
اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ ثَلاثًا ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ
إِلَيْهِ النَّفْسُ ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، والإِثْمُ مَا
حَاكَ فِي النَّفْسِ ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ ، وَإِنْ أَفْتَاكَ
النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)) (سنن الدارمي)
إذاً نستنبط استنباطًا آخر: أن الفتوى وحدها من دون أن تطمئن وترتاح
لها لا تنجيك من عذاب الله ، وأكبر دليل عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ
بَعْضٍ ، وَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِمَا يَقُولُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ
بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ
قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا )) (مسند الإمام أحمد)
إذاً هل من فتوى أعظم من أن يفتي النبي عليه الصلاة والسلام وهو المعصوم
وهو المشرّع وهو سيد الخلق ؟ لو انتزعت من فم النبي فتوى ولست محقاً، وحاك
في صدرك، وتردد في صدرك، وشعرت بالحرج والضيق، وضاقت نفسك، ووخزك ضميرك،
وانقبض قلبك، فالفتوى لا قيمة لها، لذلك قالوا: الفتوى تحتاج إلى تقوى،
وقالوا: هناك فتوى، وهناك تقوى، فالتقوى أن تراقب الله عز وجل، وأن تجعل من
اطمئنان قلبك ونفسك مقياساً صحيحاً لهذا الذي تقبله من الفتاوى أو تفتيه
من الفتاوى.
أخ كريم وجد محضرًا في بعض أحياء دمشق الحساسة، استطاع بذكاء بارع أن ينزل
بالمزاد بشكل تمثيلي ، فالمحضر مثلاً - هذه قصة من اثنتي عشرة سنة - سعره
سبعمائة وخمسين ألفًا، تمكن من إنهائه بأربعمائة وخمسين ألفًا ! المزايدات
قليلة جداً، ثم جاء يسألني قال: تمكنت أن أشتري هذا المحضر بمبلغ اقل من
ثمنه الحقيقي بالثلث تقريباً ! فما الحكم الشرعي ؟ طبعاً بهذا المحضر، من
أصحاب المحضر أيتام، قلت : لماذا جئت تسألني ؟ قال: لأنني متضايق، قلت له :
هذا هو الجواب ! الإنسان عندما يسأل يكون منزعجًا وقلقًا ، لو فرضنا أنك
عطشان ، وبرّاد الماء جاه، والكأس جاهزة، والماء بارد، وترغب بماء بارد ،
وجسمك يحتمل الماء البارد ، شربت كأس ماء بارد ، ممكن أن تسأل عنها مفتيًا
أنك فعلت شيئا خطأ ، هل لها مشكلة ؟ ما الحكم الشرعي ؟ هنا لا يهمك لأنها
بديهية ، الحلال ليس له مشكلة، لا أحد يختلف عليه، لا أحد يسال عنه، أولادك
يطلبون الفاصولياء، أحضرت الفاصولياء واللحمة ، وطهيتهم ، وأكلتم فاصولياء
ورزا ، هل يلزم هذه سؤال مفتٍ؟ بديهي ، فعندما تسأل يعني هذا أنك قلق ،
لماذا ؟ لأنه أصبح هناك تردد ، بمجرد أن تسأل أنت قلق ، لذلك قالوا: نفي
الشيء أحد فروع تصوره .
إذا باعك أحدهم شيئًا قال لك: أنا لم أرفع الثمن عليك، معنى هذا أنه رفع
الثمن عليك! هو شعر بوخز ضمير فبادر إلى النفي، وهذا النفي إثبات، أحياناً
الإنسان الذي ينفيه كأنه يثبته!
لذلك قالوا: نفي الشيء أحد فروع تصوره.
هناك رواية ثانية: قال: سمعت وابصة، وذكر الحديث مختصراً، ولفظ الحديث
المختصر: ((البر ما انشرح له الصدر، والإثم ما حاك في صدرك، وإن أفتاك عنه
الناس))
وفي رواية رابعة ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: أَنَّ رَجُلا سَأَلَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا الإِيمَانُ ؟ قَالَ:
إِذَا سَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ، وَسَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ، فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ،
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الإِثْمُ؟ قَالَ : إِذَا حَاكَ فِي
نَفْسِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ)) (مسند الإمام أحمد)
الشيء الذي له إشكال ضيق تردد خوف قلق خجل دعه ، وأدق ما في هذا المعنى قول
حَسَّان بْن أَبِي سِنَانٍ: (مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَهْوَنَ مِنَ
الْوَرَعِ دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ )(صحيح البخاري)
وفي رواية أخرى، عَنْ الْخُشَنِيِّ يَقُولُ : ((قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ : أَخْبِرْنِي بِمَا يَحِلُّ لِي وَيُحَرَّمُ عَلَيَّ قَالَ :
فَصَعَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَوَّبَ فِيَّ
النَّظَرَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْبِرُّ
مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ،
وَالإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ ، وَلَمْ يَطْمَئِنَّ
إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ)) (مسند الإمام أحمد)
أحياناً الإنسان يستفتي إنسان يتلقى الفتوى لصالحه، وتجده يبحث عن إنسان
آخر يسأله، وتأتي الفتوى الثانية لصالحه، يبحث عن إنسان صالح، هذا البحث
والتجول بين المفتين دليل قلق.
عن وائل ابن الأتقع رضي الله عنه قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم :
((أفتني عن أمر لا أسأل عنه أحداً بعدك ، فقال عليه الصلاة والسلام :
استفتِ نفسك ، قلت : كيف لي بذلك ؟ قال : تدع ما يريبك إلى مالا يريبك ،
وإن أفتاك المفتون ، قلت : كيف بذلك ؟ قال : تضع يدك على قلبك فإن الفؤاد
ليسكن للحلال ، ولا يسكن للحرام)) .
الفؤاد يسكن ويرتاح للحلال، ولا يسكن ولا يرتاح للحرام .
ورواية سابعة: عن عبد الله بن معاوية بن حديج أن رجلا سأل النبي صلى الله
عليه وسلم، فقال: ((يا رسول الله، ما يحل لي مما يحرم علي؛ فسكت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فردد عليه ثلاثا، كل ذلك يسكت رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ثم قال أين السائل ؟ ثم قال: أنا ذا يا رسول الله ، قال ونقر
بأصبعه: ما أنكر قلبك فدعه )) (كنز العمال، للمتقي الهندي )
وفي حديث مختصر مفيد صحّ عن ابن مسعود ، ولعله رفع إلى النبي صلى الله عليه
وسلم قال: ((الإثم حزاز القلوب))
إذا أحضر الإنسان شفرة ، وشد عضلاته ، وحركها على جلده يشهر بوخز الجرح ،
حز ألم شطب ألم الجرح، فقال : الإثم حزاز القلوب، تشعر بأن قلبك جرح، تشعر
بحجاب نشأ بينك وبين الله، تشعر أن القضية غير صحيحة غير مقبولة غير مريحة.
الهدف من هذا الدرس: أن ينمو أيها الإخوة عندكم حس فطري، يدلكم على الحلال
وعلى الحرام..
وفي رواية أخرى لهذا الحديث المقطوع أو المرفوع : قال عبد الله : ((إياكم
وحزاز القلوب))
الإثم حزاز القلوب ، بالمناسبة أحياناً يكون ميزان الإنسان دقيقًا جداً،
أحياناً يكون في الميزان خطأ ، مثل القبّان، ضع عليه ورقة هل تتحرك؟ مجموعة
لا تتحرك، كتاب لا يتحرك ابدأ بالكيلو، هناك ميزان يتحرك بكتاب، وميزان
يتحرك بورقة...
فكلما كان إيمان المؤمن عاليًا يكون ميزانه حساسًا ، يحاسب نفسه على النظرة
، على الكلمة ، على الالتفاتة ، على الابتسامة ، على حركة رأس ، إذا قال
أحدهم له : أفعلها ، فيها ظلم ؟ إذا هزّ برأسه بالموافقة فأصبح شريكه
بالإثم ! من أعان ظالماً ولو بشطر كلمة ، شطر كلمة وليس كلمة بكاملها ، جاء
يوم القيامة مكتوب على جبينه : آيس من رحمة الله ! وفي قول : من أعان
ظالماً سلّطه الله عليه .
قال عبد الله: (إياكم وحزاز القلوب ، وما حزّ في قلبك فدعه)
وقال أبو الدرداء: (الخير في طمأنينة، والشر في ريبة)
وروى بن مسعود من وجه منقطع أنه قيل له: (أرأيت شيئاً يحيك في صدورنا لا
ندري حلال هو أم حرام ؟ فقال: إياكم والحكاكات فإنها الإثم) .
الحكاكات التي تحيك في الصدور ، لست مرتاح، يقول لك: لم أرتح لهذه القسمة،
كتبت وصية ولم أرتاح، باع البيت ولم يرتاح، في البيت عيب، في ضعف في
الأساسات، فلما اشتراه مشترٍ لم يقل له شيئًا ، قال له: حاضر حلال ، تفضل
انظر ، البيت واضح ، لكن هذه علّة خفية .
النبي عليه الصلاة والسلام فسّر البر بحسن الخلق، وفسره بما اطمأنت إليه
النفس..
البر هو الإحسان، وهو معاملة الخلق بالإحسان إليهم ، الإحسان كلمة مطلقة لن
تكون مؤمناً إلا إذا أحسنت للآخرين إحساناً مطلقاً في كل الأحوال، بعضهم
قال: أولى الناس بالإحسان الوالدان، وبعضهم قال: الإحسان إذا أطلق انطلق
للإحسان للخلق عموماً.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ: ((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ: أُمُّكَ،
قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ:
ثُمَّ أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ)) (صحيح البخاري)
وقد قيل:
أخي البر شيء هين *** وجه طلق وكلام لين
عن جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةَ،
قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الْحَجُّ الْمَبْرُورُ ؟ قَالَ :
إِطْعَامُ الطَّعَامِ ، وَإِفْشَاءُ السَّلامِ )) (مسند الإمام أحمد)
عندما قال ربنا عز وجل : " وتعاونوا على البر والتقوى"(سورة المائدة)
بعضهم قال : البر صلاح الدنيا ، والتقوى صلاح الآخرة ، بعضهم قال : البر
الإحسان والعمل الصالح ، والتقوى اجتناب المعاصي ...
"ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"(سورة المائدة)
الإنسان قد يأثم دون أن يعتدي، لو فرضنا أنه شرب الخمر، لم يعتدِ على أحد،
لكنه اعتدى على نفسه، فشربُ الخمر إثمٌ، أما أن تغتصب مال أخيك فهذا عدوان،
إذا كانت المعصية طالت الغير فهي عدوان، أما إذا طالت النفس وحدها فهي إثم
.
بعضهم قال: البر أن يراد به فعل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة، قوله تعالى
:
"ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله
واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى
واليتامى و المساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلوة وآتى
الزكوة والوفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقونأخرج ابن أبي حاتم وصححه عن أبي ذر
"أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان"(سورة البقرة الآية
177)
فالبر جماع كل خير، العقيدة الصحيحة مع العبادات، مع المعاملات، مع
الأخلاق، مع الصبر، هذا كله جاء في الآية براً، وكل هذا تطمئن إليه النفس.
عندما قال عليه الصلاة والسلام: ((البر حسن الخلق))، بعضهم قال: قصد به
التخلق بأخلاق الشريعة، والتأدب بآداب الله التي أدب بها عباده في كتابه،
حيث قال عن رسوله صلى الله عليه وسلم :"وإنك لعلى خلق عظيم"(سورة القلم 4)
وكان عليه الصلاة والسلام كما تقول السيدة عائشة : ((كان خلقه القرآن)) ،
فكان القرآن له خلقاً كالجبلة والطبيعة لا يفارقه ، أحياناً يتعرض الإنسان
إلى استفزاز ، فتحدثه نفسه بالانتقام، لكن يقع في صراع ، فينتصر على نفسه
بشق الأنفس ، ويضبط أعصابه ، ويكظم غيظه ، ولا يفعل شيئاً ، هذا ليس على
خلق عظيم ، وصل لهذا الخلق بشق الأنفس ، وبمشادة مع نفسه كبيرة جداً ،
بجهاد كبير ، لكن المؤمن الكامل في الأعماق ، معنى في الأعماق تمكن الأخلاق
من نفسه ، الأخلاق العالية متغلغلة في أعماق أعماقِ نفسه ، احتمال أن
يتغير ، لكنه نادر جداً.
مثلا، تخيل ميزانًا وضع في كفته خمسة وعشرون كيلوًا، لو أمسكت ليرة سورية
ووضعتها فيه هل تحرك الليرة الكفة ؟ مستحيل ، إذا الخلُق خمسة وعشرون
كيلوًا ، والاستفزاز ليرة سورية لا تؤثر، لكن إذا كان الخلق كله ليرتين،
ووضعت ليرة ونصفًا مع نسمة هزة بسيطة تجد أن الكفة اهتزت .
فهناك إنسان على الحرف دائماً، ينتكس، وينهار، وينفجر، وينكث عهده،
وينتقم، ويغضب بسرعة، وهناك إنسان عميق كلما ارتقى إيمانه تغلغل الخلق في
أعماقه، وفي كيانه كله حيث لا تبدو عليه نكسات مفاجئة، لأن النكسات
المفاجئة لا تعرف طريقا إليه.
الآن أدق حديث قاله النبي عليه الصلاة والسلام متعلق بالفطرة، وهو قوله صلى
الله عليه وسلم فيما رواه عياض بن حمار: ((... وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي
حُنَفَاءَ ...)) (صحيح مسلم)
معنى حنفاء أي ميالين للحق، أنت مفطور على ميل الحق، مسلمين مستسلمين لأمر
الله، لأن أمرَ الله عز وجل وفق الفطرة، فإذا رأيت أمر الله وكانت الفطرة
سليمة أسلمت إليه وملت إليه، الميل قلبي والاستسلام سلوكي، عَنْ عِيَاضِ
بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: ((أَلا إِنَّ
رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي
يَوْمِي هَذَا ، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلالٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ
عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ
فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ
لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ
سُلْطَانًا...))
(صحيح مسلم)
والحديث الآخر، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ
عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ
يُمَجِّسَانِهِ ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى
فِيهَا جَدْعَاءَ)) (صحيح البخاري)
لمَ لمْ يقل النبي الكريم: أو يسلمانه ؟ لأن الإسلام بالفطرة، لذلك قال
تعالى: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها(سورة الروم)
فإقامة وجهك للدين حنيفاً هو عين فطرتك، وعين جبلتك، وهو عين طبيعتك، قال
تعالى:"إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء
والمنكر والبغي "(سورة النحل)
العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، هذا فطرة، والفحشاء والمنكر والبغي هذا
عكس الفطرة، وقال تعالى في آية أخرى: "ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم
الخبائث" (سورة الأعراف)
قال الله عز وجل :"ألا بذكر الله تطمئن القلوب"(سورة الرعد)
كلام رب العالمين، هذا القلب قلق خائف وجل منقبض يائس، إذا ذكر الله عز
وجل اطمأن، وارتاحت النفس.
عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِرِّ
وَالْإِثْمِ فَقَالَ: ((الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ
فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)) (صحيح مسلم )
وهذه إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجاً وضيقاً وقلقاً
واضطراباً ، فلم ينشرح له الصدر..
بالمناسبة هناك من يظن أن الحلال بيّن والحرام بيّن ، وبينهما أمور
مشتبهات ، تتمة الحديث لا يعلمها كثير من الناس .
ما معنى هذا الكلام ؟ معنى هذا الكلام أن قليلاً من الناس يعلمون حقيقة
هذه المشتبهات ، إذاً اسأل عنها ، إذا وقع الإنسان بتردد يا ترى هذا حلال
أم حرام ؟ فقال : هذه إذاً شبهة ، مادام لها وجه حلال ووجه حرام معنى هذا
أنها شبهة ، هذه الشبهة من يعلمها ؟ يعلمها العلماء لكن عامة الناس لا
يعلمونها...
إذا وقع الإنسان في شبهة ليسأل عنها ....
الحقيقة المؤمن كما قال الله عز وجل :"وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى
الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" (سورة الأحزاب)
أنت في الأساس مخير، لكن بعد أن عرفت الله عز وجل، وعرفت أمره ونهيه ، كأن
اختيارك قد انتهى ، أصبح اختيارك وفق الشرع ، إذا أنت مؤمن ،
أيها الإخوة :
الموضوع الذي أركز عليه في هذا الدرس أن تمتلك هذه الحساسية القلبية للحق
والباطل ، للحلال والحرام ، للمعروف والمنكر، أن يشعر قلبك أن هذا منكر، أن
تشعر نفسك أن هذا حرام، أن تشعر أحاسيسك وفطرتك أن هذا لا يرضي الله،
وأعظم شيء تنتقل الأمور من الإدراك إلى الشعور..
عادة عندما يرتقي الإنسان ويتحرك حركة عفوية وفق الشرع معنى هذا أن نفسه
ارتقت ارتقاءً كبيرًا جداً، إلا في حالة واحدة إذا الإنسان انطمست بصيرته
بالشهوات هذا لم يعد قلبه مفتيًا له ، هذا إذا قلت له : استفتِ قلبك ، يقول
لك : جاء الحل ، هكذا يحدثني قلبي ! هذا أصبح دجالا ، إذا انطمس قلب
الإنسان بالشهوات هذه الأحاديث كلها تنطبق عليه ، لأن النبي قال :
((وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ ، وَإِنَّهُمْ
أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ
عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي
مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا)) .
فالفطرة تصلح للمؤمن، أما غير المؤمن فلا يحكَّم إلا بالشرع، أما فطرته
فقد تقوده للمعصية.
لذلك أيها الإخوة : قبل أن تفعل قبل أن تقدم على شيء ، إذا كان لديك صفاء
اسأل نفسك ، انقباض حرج حز قلبك ، حزاز القلب ، شعرت بضيق ، لست مرتاحًا ،
شعرت بحجاب بينك وبين الله دعه ، وانتهى الأمر ، شعرت بقلق دفعك للسؤال ،
لمجرد أنك تنطلق سائلاً فأنت في شك من أمرك ، حاك في صدرك ، فهذا مقياس
أضعه بين أيديكم للحلال والحرام ، أنا والله يخبرني إخوان كثيرون بأنه غير
مرتاح ، وزعت هذه القسمة ، ولست مرتاحًا ، هذا عذاب الفطرة، وعذاب الفطرة
صعب جداً ومستمر، لا يتوقف، فدائماً أرح نفسك .
عندما يصل الإنسان إلى درجة لا يستطيع أن يعمل إثما لأنه ضُغِط عليه فهذه
درجة جيدة ، وإذا كان في الأساس تعاف نفسه المعصية هذه أرقى...
المصدر:
موسوعة النابلسي للعلوم
الإسلامية اقرأ أيضا تفسير الحديث في المواقع التالية:
الشبكة الإسلاميةجامع شيخ الإسلام ابن تيميةموقع الشيخ محمد بن صالح
العثيمين