خطبة جمعة بعنوان: الزهد في
الدنيا ومحبة اللهمحمد بو سنه
ملخص الخطبة1- محبة الله للعبد. 2- مفهوم الزهد في الدين. 3- مفاهيم خاطئة للزهد. 4-
الدين لا ينافي الحضارة. 5- حقيقة الدنيا. 7- أسباب محبة الله للعبد. 8-
كيف يحبك الناس. 9- حب الناس نعمة من نعم الله إذا كان بحق.
الخطبة الأولىوبعد فعن سهل بن سعد الساعدي قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله
دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال:
((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس
يحبك الناس)) [رواه ابن ماجة وغيره، والحديث صحيح].
عباد الله إن محبة الله للعبد من أعظم ما يوفق إليه الإنسان، فمن أحبه الله
أكرمه، ووضع له القبول في الأرض، ومن أبغضه وضع له البغضاء في الأرض، ولقد
بين عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث سبب محبة الله لعبده وسبب محبة
الناس له، ومعلوم أن الإنسان يشعر بسعادة عظيمة إذا كان يحيى في مجتمع
يحبه، ومن أحبه الناس آلفوه وعايشوه وتعاملوا معه.
فمِن تلكم الأسباب التي تحقق هذه المحبة، والتي جاء ذكرها في هذا الحديث
الزهد في الدنيا. والزهد عباد الله هو الانصراف عن كل ما لا ينفع في
الآخرة، بأن تخرج يا عبد الله من قلبك حب الدنيا والحرص عليها والرغبة
إليها فتصبح الدنيا في يدك. وحب الله والآخرة في قلبك وليس معنى الزهد رفض
الدنيا بالكلية والابتعاد عنها، فقد كان نبينا إمام الزاهدين وله تسع نسوة،
وكان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من الملك
والمال والنساء مالهما، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كانوا من الزهاد مع ما
كان لهم من الأموال والنساء والبنين، ما هو معروف، فليس الزهد في الدنيا
بأن تحرّم على نفسك ما أحله الله لك من الطيبات، إذ الحلال نعمة من الله
على عبده، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فشكره على نعمته
والاستعانة بها على طاعته واتخاذها طريقاً إلى جنته أفضل من الزهد فيها،
والتخلي عنها، لأن الزهد في نعم الله زهد مخالف لهدي النبي وسنته، لا خير
فيه، يظلم القلوب ويعميها ويشوه جمال الدين الذي اختاره الله لعباده، وينفر
العباد من دين الله عز وجل ويهدم الحضارة، ويمكن أعداء الله من أمة
الإسلام وينشر الجهل.
ومعلوم أن كل الحضارات لا تقوم إلا على العلم والكسب والزواج، وحضارة
الإسلام ما قامت إلا على هذا، أمرت بالكسب حيث قال عليه الصلاة والسلام:
((ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود
عليه السلام كان يأكل من عمل يده)) [رواه البخاري].
وأمر بالزواج فقال: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج..)).
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الزهد في الزواج مخالفاً لهديه وسنته
فقال: ((وإني أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
وأمر بالعلم الديني والدنيوي فقال عليه الصلاة والسلام: ((طلب العلم فريضة
على كل مسلم)) هذا من حديث العلم الديني.
أما العلم الدنيوي فلا يختلف اثنان في ضرورة طلب علوم الدنيا من طب وصناعة
وزراعة وغيرها مما لا غنى للعباد عنه في هذا الزمان.
وما ضعفت شوكة المسلمين وتدهورت أحوالهم إلا بسبب تقصييرهم في طلب العلم
الديني والدنيوي، واكتفوا بأخذ القشور من علوم الدنيا من أعدائهم بينما
أخذوا عنهم كثيراً من أمور زائفة زائلة أدت بأهلها إلى الهلاك وضياع الدين
والخلق والفضيلة.
ولكي تزهد يا عبد الله في هذه الدنيا زهد الأتقياء والصالحين لابد أن تعرف
شأن الدنيا وقيمتها فقد جاءت نصوص كثيرة في كتاب الله وفي سنة رسول الله
تزهد في الدنيا وتبين حقارتها وقلتها وسرعة زوالها، وترغّب في نعم الآخرة
الدائمة التي لا تنقطع، فمن تلكم النصوص قوله جل وعلا:« اعلموا أنما الحياة
الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث
أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب
شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور»
فالدنيا منقطعة زائلة فانية فلا ينبغي للعبد أن يشتغل بالفاني الزائل عن
الباقي الدائم. كما دلت الآية على أن الحياة الدنيا غرور وباطل ولعب،
وحقيقة اللعب ما لا ينتفع به. واللهو ما يلهي الإنسان عن الآخرة، ودلت
الآيات على أنها زينة تصرف المفتون بها عن الآخرة. وأنها تفاخر بين الناس
يفخر بعضهم على بعض بنعيمها الزائل من مال وولد وجاه وغيره، ثم شبه ربنا
سبحانه سرعة زوال الدنيا بالمطر الذي ينزل على الأرض فتهتز به وتخضر، ثم
سرعان ما تعود إلى ما كانت عليه من جفاف واصفرار وموات، فكذلك حال نعيم
الدنيا سرعان ما يزول وينقضي.
وأما من السنة فما رواه جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
مر بالسوق بجدي ميت – أي ولد المعز – فتناوله فأخذه بأذنه ثم قال:« أيكم
يحب أن يشتري هذا بدرهم؟ قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه لأنه أسك –
أي صغير الأذنين – فكيف وهو ميت فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا
عليكم» [رواه مسلم].
وكما جاء في الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما الدنيا في
الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع)).
ومما ينبغي عليك أن تعلمه يا عبد الله أن الذي يحمل العبد على الزهد في
الدنيا قوة إيمانه، واستحضاره عظمة ربه، ووقوفه بين يديه واستحضار أهوال
يوم القيامة، فإن ذلك يجعل حب الدنيا ونعيمها يضعف في قلبه، فينصرف عن
لذائذها ويقتنع بالقليل منها.
ومنها أيضاً شعوره بأن الدنيا تشغل القلوب عن التعلق بالله وتؤخر الإنسان
عن اللحوق بدرجات الآخرة، وأن الإنسان سوف يسأل عن نعيمها قال تعالى: ثم
لتسألن يومئذ عن النعيم.
ومما يعينك أيضاً يا عبد الله على الزهد في الدنيا علمك بتحقير القرآن لشأن
الدنيا ونعميها وأنها لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً
منها شربة ماء. فشعور العبد النير القلب بهذا يجعله يزهد في الدنيا ويقبل
على ما هو خير وأبقى قال تعالى: بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير
وأبقى.
وفقني الله وإياكم للزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة حتى ننال محبة الله
عز وجل.
الخطبة الثانيةعلمت يا عبد الله أن الزهد في الدنيا طريق من طرق محبة الله جل وعلا لعبده،
إذ من أحبه الله وفقه لما يحب وأغدق عليه نعمه الظاهرة والباطنة، ألا
فلتعلم أن محبة الله لها طرق أخرى وأسباب كثيرة توصلك إلى محبة الله لك،
وترفع مقامك عنده نذكر منها:
- قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه حتى يتمكن الإنسان من عبادة ربه حق
العبادة التي تكون سبباً للتقرب إلى الله ومحبة الله.
- التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وفي الحديث القدسي عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله: يقول الله تعالى:من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب،
وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي ما اقترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي
بالنوافل حتى أحبه)) [رواه البخاري].
- ومن الطرق الموصلة لمحبة الله لعبده متابعة الرسول والاقتداء به بتصديقه
فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والابتعاد عما نهى عنه وزجر، فإن الله تعالى
قال: (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم
والله غفور رحيم))
إن هذه الآية تدل على صدق محبة العبد لربه، إذ لا يتم له ذلك بمجرد دعوة
قلبه أو لسانه فكم من أناس يدعون محبة الله بقلوبهم وألسنتهم: وأحوالهم
تكذب دعواهم، فعلامة حب العبد لربه وحب الله لعبده طاعة رسول الله .
والقرآن والسنة مملوآن بذكر من يحبه الله سبحانه من عباده المؤمنين وذكر ما
يحبه من أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم، فالإحسان إلى الخلق سبب المحبة قال
تعالى
( والله يحب المحسنين))، والصبر طريق المحبة أيضاً: ((والله يحب
الصابرين))، والتقوى كذلك فإن الله يحب المتقين. وبالجملة فإن طريق محبة
الله طاعة أوامره واجتناب نواهيه بصدق وإخلاص.
وأما طريق محبة الناس فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا كيف الوصول إليها
فقال: ((وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)). ولا يتم ذلك إلا بالتعفف عما
في أيدي الناس من حطام الدنيا الفانية، والإنسان عباد الله بحاجة إلى محبة
الناس إليه لأنه يشعر بسعادة وانشراح عندما يعيش بين أظهر ناس يحبونه،
ويشعر بضيق وانقباض عندما يحيى بين قوم يكرهونه، وفي الصحيحين عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أحب الله تعالى العبد نادى جبريل:
إن الله تعالى يحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن
الله يحب فلاناً فأحبّوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)).
ولكن عليك أن تعلم أنه لا ينبغي أن تكون محبة الناس لك على حساب الحق
والعدل، فإن هذا لا يجوز في دين الله عز وجل قال صلى الله عليه وسلم: ((من
أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، ومن أسخط الناس برضا الله كفاه
الله مؤونة الناس)).
المصدر:
موقع المنبر وهذه أقوال في الزهد جامع العلوم والحكم في شرح خمسين
حديثا من جوامع الكلم لأبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
اقتطفتها من شرح حديث ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس
يحبك الناس)) قال الحسن: إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز
وجل.
عن على وابن مسعود قالا: إن أرجي ما يكون الرزق إذا قالوا ليس في الدنيا
دقيق.
وقال مسروق: إن أحسن ما أكون ظنا حين يقول الخادم ليس في البيت قفيز من
قمح ولا درهم.
وقال الإمام أحمد: أسر أيامي إلى يوم أصبح وليس عندي شيء.
وقيل لأبي حازم الزاهد ما مالك قال: لي مالان لا أخشى معهما الفقر الثقة
بالله واليأس مما في أيدي الناس وقيل له أما تخاف الفقر فقال: أنا أخاف
الفقر ومولاي له ما في السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى ودفع إلى
على بن الموفق ورقة فقرأها فإذا فيها: يا على بن الموفق أتخاف الفقر وأنا
ربك.
وقال الفضيل بن عياض: أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل وقال: القنوع هو
الزاهد وهو الغني فمن حقق اليقين وثق بالله في أموره كلها ورضي بتدبيره له
وانقطع عن التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفا ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب
المكروهة ومن كان كذلك كان زاهدا في الدنيا حقيقة، وكان من أغني الناس وإن
لم يكن له شيء من الدنيا.
كما قال عمار رضي الله عنه كفى بالموت واعظا وكفى باليقين غنى وكفى
بالعبادة شغلا.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله ولا تحسد
أحدًا على رزق الله ولا تلم أحدًا على ما لم يؤتك الله فإن رزق الله لا
يسوقه حرص حريص ولا يرده كراهية كاره فإن الله تعالى بقسطه وعلمه وحكمته
جعل الروح والفرح في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في السخط والشك
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من زهد الدنيا هانت عليه المصيبات.
كقول وهب بن الورد رحمه الله: والزهد في الدنيا أن لا تأس على ما فات منها
ولا تفرح بما آتاك منها.
قال ابن السماك رحمه الله: هذا هو الزاهد المبرز في زهده وهذا يرجع إلى
أنه يستوي عند العبد إقبالها وإدبارها وزيادتها ونقصها وهو مثل استواء حال
المصيبة وعدمها.
قال ربيعة: رأس الزهادة جمع الأشياء بحقها ووضعها في حقها.
كان بكر المزني يدعو لإخوانه: زهدنا الله وإياكم زهد من أمكنه الحرام
والذنوب في الخلوات فعلم أن الله يراه فتركه.
وقال إبراهيم بن أدهم: الزهد ثلاثة أصناف فزهد فرض وزهد فضل وزهد سلامة
فأما الزهد الفرض فالزهد في الحرام والزهد الفضل الزهد في الحلال والزهد
السلامة الزهد في الشبهات.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لأصحابه أنتم أكثر صلاة وصوما وجهادا من
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خيرًا منكم قالوا كيف ذلك قال
كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب منكم في الآخرة
وقال أبو الدرداء: لئن حلفتم لي على رجل أنه أزهدكم لأحلفن لكم أنه خيركم.
المصدر:
الدار الإسلامية للإعلام إقرأ أيضا تفسير الحديث في الروابط التالية
حديث: ازهد في الدنيا يحبك
الله/ شرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ شرح حديث: { ازهد في الدنيا }/
الشبكة الاسلامية