الحديث عَنْ أَبِيْ ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ جُرثُومِ بنِ نَاشِرٍ رضي الله عنه عَن
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ
فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودَاً فَلا تَعْتَدُوهَا وَحَرَّمَ
أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ
غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا)[1]
حديث حسن رواه الدارقطني وغيره.
الشرح" فَرَضَ" أي أوجب قطعاً، لأنه من الفرض وهو القطع.
" فَرَائِضَ" ولا نقول: ( فرائضاً) لأنها اسم لا ينصرف من أجل صيغة منتهى
الجموع.
" فَرَضَ فَرَائِضَ" مثل الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، والحج، وبر
الوالدين، وصلة الأرحام، ومالا يحصى.
" فَلا تُضَيِّعُوهَا" أي تهملوها فتضيع، بل حافظوا عليها.
"وَحَدَّ حُدودَاً فَلا تَعتَدوها" الحد في اللغة المنع، ومنه الحد بين
الأراضي لمنعه من دخول أحد الجارين على الآخر، وفي الاصطلاح قيل: إن المراد
بالحدود الواجبات والمحرمات.
فالواجبات حدود لا تُتعدى، والمحرمات حدود لا تقرب.
وقال بعضهم: المراد بالحدود العقوبات الشرعية كعقوبة الزنا، وعقوبة السرقة
وما أشبه ذلك.
ولكن الصواب الأول، أن المراد بالحدود في الحديث محارم الله عزّ وجل
الواجبات والمحرمات، لكن الواجب نقول: لا تعتده أي لاتتجاوزه، والمحرم
نقول: لا تقربه، هكذا في القرآن الكريم لما ذكر الله تعالى تحريم الأكل
والشرب على الصائم قال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا
)(البقرة: الآية229) ولما ذكر العدة وما يجب فيها قال: (تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلا تَقرَبُوهَا)[البقرة:187].
"وَحَرَّمَ أَشيَاء" (أشياء) منصوبة بدون تنوين لوجود ألف التأنيث
الممدودة.
"فَلا تَنتَهِكوهَا" أي فلا تفعلوها، مثل : الزنا، وشرب الخمر، والقذف،
وأشياء كثيرة لا تحصى.
"وَسَكَتَ عَنْ أَشيَاء رَحمَةً لَكُمْ غَيرَ نسيَان فَلا تَبحَثوا عَنهَا"
سكت عن أشياء أي لم يحرمها ولم يفرضها.
قال: سكت بمعنى لم يقل فيها شيئاً، ولا أوجبها ولا حرمها.
وقوله: "غَيْرَ نسيَان" أي أنه عزّ وجل لم يتركها ناسياً (وَمَا كَانَ
رَبُّكَ نَسِيّاً)(مريم: الآية64) ولكن رحمة بالخلق حتى لا يضيق عليهم.
"فَلا تَبحَثوا عَنهَا" أي لا تسألوا، مأخوذ من بحث الطائر في الأرض، أي لا
تُنَقِّبُوا عنها،بل دعوها.
الفوائد من هذا الحديث:1- إثبات أن الأمر لله عزّ وجل وحده
فهو الذي يفرض، وهو الذي يوجب، وهو الذي يحرم، فالأمر بيده، لا أحد يستطيع
أن يوجب مالم يوجبه الله، أو يحرم مالم يحرمه الله،لقوله: "إِنَّ اللهَ
فَرَضَ فَرَائض" ...وقَالَ: "وَحَرمَ أَشيَاء"
فإن قال قائل: هل الفرض والواجب بمعنى واحد، أو الفرض غير الواجب؟
فالجواب:أما من حيث التأثيم بترك ذلك فهما واحد، وأما من حيث الوصف: هل هذا
فرض أو واجب؟ فقد اختلف العلماء- رحمهم الله- في هذا، فقال بعضهم:
الفرض ما كان دليله قطعياً، والواجب ما كان دليله ظنياً.
وقال آخرون: الفرض ما ثبت بالقرآن، والواجب ما ثبت بالسنة.
وكلا القولين ضعيف، والصواب: أن الفرض والواجب بمعنى واحد، ولكن إذا تأكد
صار فريضة، وإذا كان دون ذلك فهو واجب، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة
.
2- أن الدين الإسلامي ينقسم إلى فرائض ومحرمات.
3- وجوب المحافظة على فرائض الله عزّ وجل، مأخوذ من النهي عن إضاعتها، فإن
مفهومه وجوب المحافظة عليها.
4- أن الله عزّ وجل حد حدوداً، بمعنى أنه جعل الواجب بيناً والحرام بيناً:
كالحد الفاصل بين أراضي الناس، وقد سبق في حديث النعمان بن بشير رضي الله
عنهما أن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات.
5- تحريم تعدي حدود الله، لقوله: "فَلاَ تَعتَدوهَا"، وانظر كيف كرر الله
عزّ وجل النهي عن التعدي إلى حدود الله في مسألة الطلاق، يتبين لك أهمية
النكاح عقداً وإطلاقاً.
6- أنه لا يجوز تجاوز الحد في العقوبات، فالزاني مثلاً إذا زنا وكان بكراً
فإنه يجلد مائة جلدة ويغرّب عاماً، ولا يجوز أن نزيد على مائة جلدة، ونقول
يجلد مائة وخمسين مثلاً، فإن هذا محرم.
7- وصف الله عزّ وجل بالسكوت، هذا من تمام كماله عزّ وجل، أنه إذا شاء تكلم
وإذا شاء لم يتكلم.
8- أنه يحرم على الإنسان أن ينتهك محارم الله عزّ وجل، لقوله: "حَرَّمَ
أَشيَاء فَلا تَنتَهِكُوهَا"، وطرق التحريم كثيرة، منها:
النهي، ومنها: التصريح بالتحريم، ومنها: ذكر العقوبة على الفعل، ولإثبات
التحريم طرق.
9- أن ما سكت الله عنه فلم يفرضه، ولم يحده، ولم ينه عنه فهو الحلال، لكن
هذا في غير العبادات، فالعبادات قد حرم الله عزّ وجل أن يشرع أحد الناس
عبادة لم يأذن بها الله عزّ وجل، فتدخل في قوله: "حَرَّمَ أَشيَاء فَلاَ
تَنتَهِكُوهَا"، ولهذا نقول: إن من ابتدع في دين الله ما ليس منه من عقيدة
أو قول أو عمل فقد انتهك حرمات الله، ولا يقال هذا مما سكت الله عزّ وجل
عنه، لأن الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل عليها، وغير ذلك الأصل فيه
الإباحة، فما سُكِتَ عنه فهو مباح.
10- أنه لا ينبغي البحث عما سكت الله تعالى عنه ورسوله، وهل هذا النهي في
عهد الرسالة، أم إلى الآن ؟
في هذا قولان للعلماء منهم من قال: هذا خاص في عهد الرسالة، لأن ذلك عهد
نزول الوحي، فقد يسأل الإنسان عن شيء لم يُحرم فيحرم من أجله، أو عن شيء لم
يجب فيوجب من أجله، كما سأل الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم حين
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيكُم الحَجَّ" فقام
الأقرع وقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ وهذا سؤال في غير محله، اللهم إلا
إذا كان الأقرع بن حابس أراد أن يزيل الوهم الذي قد يعلق في أفهام بعض
الناس، فالله أعلم بنيته، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَو قُلتُ
نَعَم لَوَجَبَت وَمَا استَطَعتُم، الحَجَّ مَرَةً فَمَا زَادَ فَهُوَ
تَطَوع"[2]، من أعظم الناس جرماً من يسأل عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل
مسألته، أو لم يوجب فيوجب من أجل مسألته.
أما بعد عهد الرسالة فلا بأس أن يبحث الإنسان، ولكن الصواب في هذه المسالة
أن النهي حتى بعد عهد الرسالة إلا أنه إذا كان المراد بالبحث الاتساع في
العلم كما يفعله طلبة العلم، فهذا لا بأس به، لأن طالب العلم ينبغي أن يعرف
كل مسألة يحتمل وقوعها حتى يعرف الجواب، وأما إذا لم يكن كذلك فلا يبحث،
بل يمشي على ما كان عليه الناس.
11- إثبات رحمة الله عزّ وجل في شرعه، لقوله: "رَحمَةً بِكُم" وكل الشرع
رحمة، لأن جزاءه أكثر بكثير من العمل، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة
ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومع ذلك فالله عزّ وجل خفف عن العباد، وسكت عن أشياء
كثيرة لم يمنعهم منها ولم يلزمهم بها.
12-انتفاء النسيان عن الله عزّ وجل، لقوله "غَيرَ نسيَان" وقد جاء ذلك في
القرآن الكريم، فقال الله عزّ وجل: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً)[مريم:
64] وقال موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون لما سأله ما بال القرون الأولى:
(قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا
يَنْسَى) (طـه: 52)
13- حسن بيان النبي صلى الله عليه وسلم حيث ساق الحديث بهذا التقسيم الواضح
البين
والله أعلم.
الهوامش:[1] أخرجه الدارقطني – ج4/ص185، (42)
[2] اخرجه أبو داود – كتاب: المناسك، باب: فرض الحج، (1721)، الإمام أحمد
بن حنبل – ج1/ص255، مسند آل العباس عن عبدالله بن عباس، (2304). وابن ماجه –
كتاب: المناسك، باب: فرض الحج، (2886). وأخرج مسلم "في معناه" – كتاب:
الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، (1337)، (412)
المصدرربتصرف:
موقع فضيلة الشيخ ابن عثيمين يمكن أيضا الاطلاع على شرح الحديث في الروابط التالية:
الشبكة الاسلاميةشرح الشيخ صالح بن عبد العزيز
آل الشيخ/موقع جامع شيخ الإسلام ابن تيميةشرح الشيخ الدكتور سفر بن
عبدالرحمن الحوالي/ موقع فضيلة الشيخ الدكتور سفر الحوالي