غزة – فلسطين الآن - عقدت الدهشة يومها لسان الحاج صالح العدلوني عندما
جاءه "عبد العزيز الرنتيسي" ذلك الطبيب الشاب، والمتخرج حديثاً من مصر
ليفاتحه بأمر الزواج من ابنته "رشا" بمنتهى البساطة والثقة، ودون مقدمات،
متجاوزاً بـ"فعلته" كافة الأعراف الاجتماعية التي تلزمه بإرسال أمه
وأخواته، ولم يجد ما يقوله لهذا الشاب الجريء سوى جملة واحدة: "بصير خير!".
"لن أتزوج الآن!"
"قل له إنني لا أرغب بالزواج الآن يا والدي!" قالتها رشا بعناد وإصرار
واضحين، فيما كان أبوها يتأملها بهدوئه المعهود، قبل أن يقول: "ولكنه يا
بنيتي شاب طيب وخلوق، فضلاً عن كونه من أسرة طيبة، سأترك القرار النهائي
لك، وبعد أيام سأسمع منك قرارك النهائي.."، ثم تركها ومضى نحو حجرته.
كانت رغبة رشا، الطالبة بالمرحلة النهائية من الثانوية العامة في ذلك الوقت
هي أن تكمل تعليمها بالجامعة، رغم انعدام وجود الجامعات بقطاع غزة في ذلك
الوقت، إلا أنها لم تدرك بأن رغبتها ستتحقق ولكن بعد أكثر من عشرين عاماً!.
تعلق فتقول: " كنت في صغري بمثابة "عمود الدار" و"فتاتها المدللة" أيضا،
لأنني البنت الكبرى وقد وقع على عاتقي مساعدة أمي في أعمال المنزل، كما أن
والديّ كثيراً ما كانا يحترمان رأيي، حتى أنني كنت أصلح بينهما عند حدوث أي
خلاف!".
ولمدة أسبوع، ترددت "رشا" في القبول بهذا "العريس الجديد"، فقد رفض والدها
قبله "طوابير" من العرسان الشباب دون حتى أن يخبرها بالأمر، والذين أعجبوا
جميعاً بتدين الأسرة، وتميز فتياتها بالالتزام بتعاليم الدين، في وقت كان
فيه الاختلاط وارتداء الفتيات الأزياء غير اللائقة "تصرفاً عادياً تماماً".
إلا أن الأمر مع هذا "الطبيب" يبدو مختلفاً تماماً: لقد رأت في عيني أبيها
للمرة الأولى "تشجيعاً" لم يذكره لسانه كي توافق. وقد كان!. جاء بعدها
"الطبيب" مع أهله كي يتقدموا لخطبة الفتاة رسمياً.
"تقدمت إليه بصينية القهوة. رفع رأسه ورآني ثم ابتسم. كانت المرة الأولى
التي نرى فيها بعضنا. رأيت فيه فتى أحلامي حقاً: فقد كان شاباً وسيماً، كل
ما فيه يفصح عن رجولته وحيويته المميزتين، كما أن ما جذبني إليه أيضاً هو
ذلك البريق الذي يشع قوة وثقة من عينيه، ويجعلك تشعر بالاطمئنان التام نحوه
حتى لو لم تكن تعرفه. وفهمت ساعتها كيف استطاع التأثير على والدي!"، كما
قالت.
لكن الأمور لم تسر بسهولة مطلقاً: فقد جاء معارف الحاج صالح وأقرباؤه
يوبخونه ويلومونه لموافقته على ارتباط ابنته بذلك الطبيب، لا لشيء سوى أن
عائلة العدلوني "يافاوية"، ولا يجوز – من وجهة نظرهم - أن ترتبط بـ"فلاحين"
من قرية يبنا كعائلة الرنتيسي، وقد كان هذا الأمر "خطاً أحمر" ندر من
تجاوزه في ذلك الوقت، إلا أن الحاج صالح أكد للجميع أنه ينظر إلى الشاب
وأخلاقه وتدينه ومواظبته على الصلاة، ولا ينظر إلى أصله "سواء أكان فلاحاً
أو غير فلاح! "، ليتم بعدها الحاج صالح مراسم الخطبة غير مبال باعتراضات
المعترضين.
غير أن الحاج صالح اشترط على الدكتور عبد العزيز أن تستمر فترة الخطوبة
لمدة ستة أشهر كاملة، وهي مدة طويلة للغاية إذا عرفنا أن مدة الخطوبة وقتها
لم تكن تزيد عن الأسبوع!، لكن الحاج صالح أراد أن تحصل ابنته على عريسها
وشهادة الثانوية العامة في آن معا!، كما اشترط عليه شرطاً أشد وأنكى من
الأول: ألا يأتي إلى المنزل لزيارة خطيبته إلا نادراً – كي تذاكر جيداً-
وكذلك من خلال زيارات "عائلية"، وأن يكون الأب موجوداً حينها بالمنزل، أي
أن كلا الخاطبين سيكونان تحت مراقبة الجميع".
180يوماً
بعد أكثر من مئة وثمانين يوماً- مر كل منها كأنه سنة - تمكن الرنتيسي
أخيراً من عقد قرانه على "رشا" عام 1973، ليضمهما معا "عش الزوجية" البسيط،
الذي لم يزد على غرفة واحدة ضمن بيت عائلته، أضيف لها بعد تكاثر ذريتهما
غرفتان، كانت واحدة منهما لاستقبال الضيوف.
كانت حياة الطبيب الشاب تسير على وتيرة قلما تغيرت: ينطلق منذ الصباح إلى
مستشفى ناصر بخانيونس، ليعود بعدها إلى منزله فيتناول طعام الغداء، ومن ثم
ينطلق إلى عيادته، دون أن ينسى حق زوجته فيعود مساء للتنزه معها في الخارج
قليلاً، أو إمضاء بعض الوقت في الزيارات العائلية.
لو كنت من سكان مخيم خانيونس في تلك الفترة – مخيم العقاد تحديدا- سيكون
مشهداً مألوفاً لديك أن ترى د. عبد العزيز الرنتيسي يخرج مهرولاً وهو
بـ"البيجامة" من أجل إنقاذ حياة مريض ما، سواء أكان ذلك في وضح النهار، أو
حتى في جوف الليل، وقد كان "لفتة جميلة" لم ينسها أناس منطقته، فلا تنس
أننا في سبعينيات القرن الماضي حيث كان أعداد الأطباء في ذلك الوقت نادرة،
وكان بعضهم يصر على إظهار "برستيجه" والحفاظ على مظهره "المقدس"، فلا يخرج
إلا بعد أن يرتدي أبهى حلة يكسوها "الروب" الأبيض.
لكن الرنتيسي لم يكن واحداً من هؤلاء، فقد كان يقدر "الرسالة الإنسانية"
التي حملها كطبيب، ويدرك أن السرعة في إنقاذ حياة المريض لديه أهم بكثير من
المظاهر.
وتضيف عقيلة الرنتيسي"لم يرفض أبو محمد طلب أي شخص كان قدم إلى منزله، مهما
كانت الساعة متأخرة، أو كان مبلغه من التعب شديداً، بل كان يسارع إلى
الخروج على الفور بملابسه المنزلية، محاولاً إنقاذ المريض بأسرع ما يمكن،
ليعود بعدها إلى البيت وقد هده التعب. لكنني رغم ذلك لم أسمعه يتذمر من
عمله أبدا.. حتى عندما نكون وحدنا! ".
وفي البيت، لم يكن غريباً أن ترى الرنتيسي وهو يشارك زوجته في أعمال المنزل
التي يتأفف جل الرجال من مشاركة زوجاتهم فيها؛ كما أنه كان سنداً لأمه في
أعمال البيت قبل ذلك، حيث كان يساعدها في جل أعمال المنزل حتى الطهي، لأنها
لم تكن لتتحمل وحدها حمل تربية أولادها الأيتام لولا مساعدته هو وأخيه
الأكبر.
وهنا تضيف زوجته أم محمد: " كان هادئاً ورقيقاً كنسمة الصباح، ولم أره طوال
اثنين وثلاثين عاماً من حياتناً الزوجية عصبياً أو منفعلاً، فكان إذا غضب
يلزم الصمت حتى يزول غضبه، كما أنه كان حنوناً ورفيقاً بأولاده إلى أبعد
حد. حتى أنني أسترجع دوماً ذكرى أخلاقه السامية مع أسرته كلما سمعت عن شاب –
قد يدعي الالتزام – بأنه ضرب زوجته أو أهان أولاده لأي سبب! ".
وحتى خلال مراجعته لمواد ماجستير طب الأطفال المرهقة، كان الرنتيسي لا
يتأفف من "تقافز" أبنائه وبناته حوله و"شقاوتهم"، بينما يراجع دروسه
للماجستير، فكان يداعبهم بكل أريحية وحب أبوي، إذ كان يحب تدليلهم وإكرامهم
دائماً، كما يليق بأي أب حنون.
بداية التغير..
بعد زواجهما بثلاث سنوات وتحديداً عام 1976، بدأت أم محمد تلاحظ تغيراً
ملموساً على زوجها: فقد شرع يتغيب عن المنزل، ولا يعود إلا بعد منتصف
الليل، كما بدأ في جلب كتب دينية كثيرة تتحدث عن دعوة الإخوان المسلمين،
ومن هنا بدأت الزوجة بذكائها تفهم، ولم تقم بـ"الردح" أسوة بالزوجات
"التقليديات"، التي قد تقوم إحداهن بـ"فضح" الرجل، والصراخ عليه
بـ"اسطوانتها" المعهودة: "وين كاين لهلقيت؟!"، بل فعلت شيئا مغايراً
تماماً: " أطلق زوجي لحيته في تلك السنة، وصار أكثر تديناً وصمتاً في الوقت
ذاته، في حين أنني التزمت بالصمت أيضاً لأنني أردت أن أفهم سر تغيره، وقد
عرفته من خلال مطالعاتي للكتب التي كان يجلبها، والقليل الذي أعرفه عن دعوة
الإخوان. ومن هنا فهمت واجبي تماماً بأن صمتي وتربيتي لأطفالي "جهاد" معه،
فلم أسأله قط عما يفعله! ".
لقد ضحى الرنتيسي بكل ما يملك من أجل دعوة الإخوان: بماله الذي أنفق منه في
سبيل دعوته، فيما كانت زوجته تستقبله بالابتسامة الحانية وتحاول توفير سبل
الراحة عندما كان يأتيها عند الساعة الثانية صباحاً متعباًَ ومنهكاً، أما
أطفاله فكانوا لا يرونه سوى مرة كل أسبوع: يستيقظ فيخرج إلى عمله وهم في
مدارسهم، ليعود وهم نيام! إلا أنه حافظ على عادة أخذ زوجته إلى بيت أهلها
والمبيت مع أطفاله هناك، ليعودوا يوم الجمعة عصراً، فكانت متنفساً له يريحه
من تعب الأسبوع بكامله.
لكن الأمور بدأت تتعقد أكثر في بداية الثمانينيات، عندما رفض الدكتور تسليم
ضريبة دخله من عيادته الشخصية لسلطات الاحتلال، لتتعالى وتيرة الصدام مع
قادة تلك السلطات شيئاً فشيئاً، إلى أن تفجرت الأمور تماماً مع اندلاع
الانتفاضة الأولى عام1987، حيث أمضى "أبو محمد" بعدها ما يقرب من تسع سنوات
الاعتقال بتهمة الانتماء لحركة حماس وتأسيسها، ولتنهي علاقته بممارسة الطب
بشكل مستمر حتى آخر سني حياته، فكان على الزوجة أن تُدبِّر أمورها وأمور
ستة من أطفالها بما تيسر لها من مصادر الرزق.
"هانت يا أم محمد!"
أخيراً يخرج أبو محمد عام 1997 من سجون الاحتلال، ليذوق نكهة "سجون" السلطة
الفلسطينية لمدة سبعة عشر شهراً، وكما كانت تتنقل زوجته لتزوره في سجون
الاحتلال، صارت تأتي إليه لتراه في محبسه لدى السلطة، فيما كانت وصية الرجل
في الحالتين واحدة: " اصبري يا أم محمد فقد هانت! ".
زوجة الرنتيسي
خرج الرجل من السجن للمرة الأخيرة، محاولاً استرجاع حياته الطبيعية، لكن
ذلك كان مستحيلاً: فالتحديات المتلاحقة التي واجهت الحركة، ومن بينها
محاولة اغتياله شخصياً عام 2003، التي أسفرت عن استشهاد أحد مرافقيه،
وإصابة نجله أحمد إصابة بالغة، وتزايد الأعباء عليه يوماً بعد يوم، وخاصة
بعد استشهاد الشيخ أحمد ياسين، حرمت أسرته منه لتجعله "ملكية عامة" للشعب
الفلسطيني بأسره.
دنت الأمور أكثر من نهايتها: جاء أبو محمد ليرى أسرته دون أن يدركوا جميعاً
بأنها آخر مرة يلتقون بها سوية في الدنيا. تصف أم محمد تلك اللحظات،
فتقول: " كان فرحاً لأنه أخذ مستحقاته من الجامعة الإسلامية، بعد سنوات
تدريسه فيها، حيث سدد ما عليه من الديون، ثم جاءنا بما تبقى كي نختار
عروساً لولده أحمد، حيث اتفقا على كافة تفاصيل الزواج، واختار له من
"الكاتالوج" حتى حجرة نومه! ليقول بعدها قبل أن يخرج: " اليوم أستطيع أن
أترك الدنيا لا لي ولا علي!"، ثم خرج ليصلنا خبر استشهاده بعدها بلحظات".
جاء الخبر المفجع، ودخلت عليها ابنتها الصغرى أسماء، لتقول بثبات: "مبارك
عليك استشهاد بابا يا ماما! ". تتابع أم محمد: " لقد عاهدت الله ألا أفرح
ارائيل شارون – رئيس الوزراء الصهيوني آنذاك- بدمعة واحدة تسقط من عيني على
زوجي، فرحت أكثر من التكبير والحمد. وتساءلت بيني وبين نفسي: هل أستطيع
الصمود إلى النهاية؟ لكنني نجحت! حتى عندما ودعته وجهاً لوجه، قبل أن
يدفنوه!".
جاء المشيعون ومعهم جثمان الدكتور إلى بيته ليلقي أهله نظرة الوداع الأخيرة
عليه: زوجته وبناته الأربع: إيناس وسمر وآسيا وأسماء، وولداه: محمد وأحمد،
فيما كان على أم محمد أن تفي بعهدها وأن تتماسك وهي تقول له: "عشت طيباً
يا أبا محمد ومت شهيداً.. وهنيئاً لك الآن بزوجاتك من الحور العين! "، ثم
غادرت المكان قبل أن تخور عزيمتها!!.