جنكيز خان أقام إمبراطورية بالإرهاب والعسف
[نجح جنكيز خان في إقامة إمبراطورية كبيرة ضمن أقاليم الصين الشمالية،
واستولت على العاصمة بكين، ثم اصطدم بالدولة الخوارزمية التي كانت تجاوره
بسبب سوء تصرف حاكمها "محمد خوارزم شاه". وانتهى الحال بأن سقطت الدولة
وحواضرها المعروفة مثل: "بخارى"، "وسمرقند"، و"نيسابور" في يد المغول بعد
أن قتلوا كل من فيها من الأحياء، ودمروا كل معالمها الحضارية، وتوفي جنكيز
خان سنة (624ه = 1223م) بعد أن سيطرت دولته على كل المنطقة الشرقية من
العالم الإسلامي.
الاستعداد لغزو الخلافة العباسية
بعد سلسلة من الصراعات على تولي السلطة بين أمراء البيت الحاكم تولى
"منكوقآن بن تولوي بن جنكيز خان" عرش المغول في (ذي الحجة 648ه = إبريل
1250م). وبعد أن نجح في إقرار الأمن وإعادة الاستقرار في بلاده اتجه إلى
غزو البلاد التي لم يتيسر فتحها من قبل، فأرسل أخاه الأوسط "قوبيلاي" على
رأس حملة كبيرة للسيطرة على جنوب الصين ومنطقة جنوب شرق آسيا، وأرسل أخاه
الأصغر هولاكو لغزو إيران وبقية بلاد العالم الإسلامي، وعهد إليه بالقضاء
على طائفة الإسماعيلية وإخضاع الخلافة العباسية.
خرج هولاكو على رأس جيش كبير يبلغ 120 ألف جندي من خيرة جنود المغول
المدربين تدريبا عاليا في فنون القتال والنزال ومزودين بأسلحة الحرب وأدوات
الحصار، وتحرك من "قراقورم" عاصمة المغول سنة (651ه = 1253م) متجها نحو
الغرب تسبقه سمعة جنوده في التوغل والاقتحام، وبأسهم الشديد في القتال،
وفظائعهم في الحرب التي تزرع الهلع والخوف في النفوس، ووحشيتهم في إنزال
الخراب والدمار في أي مكان يحلون به.
القضاء على الإسماعيلية
وعندما وصل هولاكو إلى الأراضي الإيرانية خرج أمراؤها لاستقباله وأمطروه
بالهدايا الثمينة وأظهروا له الولاء والخضوع، ثم عبر هولاكو نهر جيحوم
واتجه إلى قلاع طائفة الإسماعيلية، ودارت بينه وبينها معارك عديدة انتهت
بهزيمة الطائفة ومقتل زعيمها "ركن الدين خورشاه".
وكان لقضاء المغول على طائفة الإسماعيلية وقع حسن عَمَّ العالم الإسلامي
على الرغم مما عاناه من وحشية المغول وتدميرهم؛ وذلك لأن الإسماعيلية كانت
تبث الرعب والفزع في النفوس، وأشاعت المفاسد والمنكرات، وأذاعت الأفكار
المنحرفة، وكان يخشى بأسها الملوك والسلاطين.
رسائل متبادلة
نجح هولاكو في تحقيق هدفه الأول بالقضاء على الطائفة الإسماعيلية وتدمير
قلاعها وإبادة أهلها، وبدأ في الاستعداد لتحقيق هدفه الآخر بالاستيلاء على
بغداد والقضاء على الخلافة العباسية؛ فانتقل إلى مدينة "همدان" واتخذها
مقرا لقيادته، وكان أول عمل قام به أن أرسل إلى الخليفة العباسي المستعصم
بالله رسالة في (رمضان 655 ه = مارس 1257 م) يدعوه فيها إلى أن يهدم حصون
بغداد وأسوارها ويردم خنادقها، وأن يأتي إليه بشخصه ويسلم المدينة له،
وأوصاه بأن يستجيب حتى يحفظ مركزه ومكانته ويضمن حريته وكرامته، وإن أبى
واستكبر فسيحل بأهله وبلاده الدمار والخراب، ولن يدع أحدا حيا في دولته.
جاء رد الخليفة العباسي على كتاب هولاكو شديدا ودعاه إلى الإقلاع عن غروره
والعودة إلى بلاده، ثم أرسل هولاكو رسالة ثانية إلى الخليفة ذكر له فيها
أنه سوف يبقيه في منصبه بعد أن يقر بالتبعية للدولة المغولية، ويقدم الجزية
له؛ فاعتذر الخليفة العباسي بأن ذلك لا يجوز شرعا، وأنه على استعداد لدفع
الأموال التي يطلبها هولاكو مقابل أن يعود من حيث أتى.
كان رد هولاكو على رسالة الخليفة أشد إنذارا وأكثر وعيدا وفي لهجة عنيفة
وبيان غاضب وكلمات حاسمة؛ فحل الفزع في قلب الخليفة؛ فجمع حاشيته وأركان
دولته واستشارهم فيما يفعل؛ فأشار عليه وزيره "ابن العلقمي" أن يبذل
الأموال والنفائس في استرضاء هولاكو وأن يعتذر له، وأن يذكر اسمه في
الخطبة، وينقش اسمه على السكة، فمال الخليفة إلى قبول هذا الرأي في بداية
الأمر غير أن مجاهد الدين أيبك المعروف ب"الدويدار الصغير" رفض هذا
الاقتراح، وحمل الخليفة العباسي على معارضته متهما ابن العلقمي بالخيانة
والتواطؤ مع هولاكو؛ فعدل الخليفة عن رأيه السابق ومال إلى المقاومة.
حصار بغداد
يئس هولاكو من إقناع الخليفة العباسي بالتسليم؛ فشرع في الزحف نحو بغداد
وضرب حولها حصارا شديدا، واشتبك الجيش العباسي الذي جهزه الخليفة العباسي
بقيادة مجاهد الدين أيبك بالقوات المغولية فكانت الهزيمة من نصيبه، وقتل
عدد كبير من جنوده لقلة خبرتهم بالحروب وعدم انضباطهم، وفر قائد الجيش مع
من نجا بنفسه إلى بغداد.
كان الجيش المغولي هائلا يبلغ حوالي 200 ألف مقاتل مزودين بآلات الحصار،
ولم تكن عاصمة الخلافة العباسية تملك من القوات ما يمكنها من دفع الحصار
ودفع المغول إلى الوراء، في الوقت الذي كان يظن فيه هولاكو أن ببغداد جيشا
كبيرا، ثم تكشفت له الحقيقة حين اشتد الحصار، ونجحت قواته في اختراق سور
بغداد من الجانب الشرقي، وأصبحت العاصمة تحت رحمتهم.
سقوط بغداد
أحس الخليفة بالخطر، وأن الأمر قد خرج من يديه؛ فسعى في التوصل إلى حل سلمي
مع هولاكو، لكن جهوده باءت بالفشل؛ فاضطر إلى الخروج من بغداد وتسليم نفسه
وعاصمة الخلافة إلى هولاكو دون قيد أو شرط، وذلك في يوم الأحد الموافق 4
من صفر 656 ه= 10 فبراير 1258م) ومعه أهله وولده بعد أن وعده هولاكو
بالأمان.
كان برفقه الخليفة حين خرج 3 آلاف شخص من أعيان بغداد وعلمائها وكبار
رجالها، فلما وصلوا إلى معسكر المغول أمر هولاكو بوضعهم في مكان خاص، وأخذ
يلاطف الخليفة العباسي، وطلب منه أن ينادي في الناس بإلقاء أسلحتهم والخروج
من المدينة لإحصائهم، فأرسل الخليفة رسولا من قبله ينادي في الناس بأن
يلقوا سلاحهم ويخرجوا من الأسوار، وما إن فعلوا ذلك حتى انقض عليهم المغول
وقتلوهم جميعا.
ودخل الغزاة الهمج بغداد وفتكوا بأهلها دون تفرقة بين رجال ونساء وأطفال،
ولم يسلم من الموت إلا قليل، ثم قاموا بتخريب المساجد ليحصلوا على ذهب
قبابها، وهدموا القصور بعد أن سلبوا ما فيها من تحف ومشغولات قيمة، وأتلفوا
عددا كبيرا من الكتب القيمة، وأهلكوا كثيرا من أهل العلم فيها، واستمر هذا
الوضع نحو أربعين يوما، وكلما مشطوا منطقة أشعلوا فيها النيران، فكانت
تلتهم كل ما يصادفها، وخربت أكثر الأبنية وجامع الخليفة، ومشهد الإمام موسى
الكاظم، وغيرها من البنايات التي كانت آية من آيات الفن الإسلامي.
وبالغ المؤرخون في عدد ضحايا الغزو المغولي حين دخلوا بغداد، فقدرهم بعض
المؤرخين بمليون وثمانمائة ألف نسمة، على حين قدرهم آخرون بمليون نسمة، وفي
اليوم التاسع من صفر دخل هولاكو بغداد مع حاشيته يصحبهم الخليفة العباسي،
واستولى على ما في قصر الخلافة من أموال وكنوز، وكانت الجيوش المغولية أبقت
على قصر الخلافة دون أن تمسه بسوء، ولم يكتف هولاكو بما فعله جنوده من
جرائم وفظائع في العاصمة التليدة التي كانت قبلة الدنيا وزهرة المدائن
ومدينه النور، وإنما ختم أعماله الهمجية بقتل الخليفة المستعصم بالله ومعه
ولده الأكبر وخمسه من رجاله المخلصين الذين بقوا معه ولم يتركوه في هذه
المحنة الشديدة.
وبمقتل الخليفة العباسي في (14 من صفر 656 ه = 20 من فبراير 1258م) تكون قد
انتهت دولة الخلافة العباسية التي حكمت العالم الإسلامي خمسة قرون من
العاصمة بغداد لتبدأ بعد قليل في القاهرة عندما أحيا الظاهر بيبرس الخلافة
العباسية من جديد.
النهاية.