منذ البداية ارتبط تفسير أشكال الحب بالتوجهات الفلسفية والآراء التي كانت
سائدة حوله في مختلف الحضارات. فكان لدى اليونانيين القدماء نمط من الحب
يعرفونه باسم (إيروس)، وهو الحب الجسدي الخليع.
ويفسر أفلاطون هذه العاطفة من وجهة نظر فلسفية وينقلها إلى الجانب الروحي.
أما سقراط فإنه يرى الحب على أنه جني عظيم أو روح كبير يحتل منزلة وسطى بين
الآلهة والبشر، فهو ليس خالدا ولا فانيا، وهو ليس حكيما ولا جاهلا.
والنمط الآخر من الحب هو الحب الرومانطيقي الخالص المقترح بالآلام والحزن
واليأس. ويعلم المحبون في مثل هذا الحب بأن عاطفتهم محرمة وليس لها أي مخرج
حتى في الزواج، وليس هناك غير اليأس والقنوط. وبما أن الزوجة في ذلك
المجتمع لم تكن سوى سلعة وكانت تعامل وكأنها أية بضاعة، فإن ذلك النمط من
الحب لم يكن موجودا في الواقع سوى في الخيال أو في التصور.
والشعر التروبادوري صورة واضحة لهذا الشكل من العاطفة التي كانت منتشرة في
الغرب بالعصر الوسيط. وعرف الغرب أيضا الحب العذري الذي تطور ضمن الشعر
الغنائي والشعر التروبادوري، وكان في بعض الأحيان حبا مفتعلا لم يكن الهدف
منه سوى إرضاء الحاجة الأدبية المعروفة.
وقد تطور تفسير الحب هذا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر بفضل آراء ابن
سينا وقسطنطين الإفريقي، وهذا الأخير أدخل الطب العربي إلى الغرب بترجمته
إلى اللاتينية الكثير من المؤلفات الطبية العربية. وكان قد ولد في تونس
(1010 - 1087م) وتنصر ثم هرب إلى إيطاليا حيث مات راهبا بمدينة كاسينو.
وحسب رأي الباحث والأستاذ الإسباني خوسي لويس كانيت فإن مؤلفي تلك الفترة
ألقوا الضوء على عملية تفاعل تجري في الدماغ، تحدث لدى المصابين بمرض الحب.
ويقول في هذا الصدد: اعتبارا من تلك اللحظة أخذوا يطلقون على تلك الكآبة
اسم هيريوس كما صورها قسطنطين الإفريقي عندما ذكر بأن ذلك الشعور يبدأ في
الانتشار في الدماغ وينشأ من رغبة غير منتظمة أو حادة.
وعدا الإيروس أو العشق وكذا العاطفة الآحادية الجانب، فإن القدماء كانوا
بعرفون نمطا آخر من الحب وهو (الأجابيه) الذي يقوم على علاقة عاطفية
متبادلة. وتتفق مع مفهوم الحب في الدين المسيحي الذي يحرم العشق أو العاطفة
المبالغ بها، لأنه يعتبرها صفة أنانية تتجاوز الحدود ويصعب التحكم فيها
وتقوم على فلسفة السعادة الخاصة. بينما يكون (الأجابيه) حب إيثار وتضحية
يقوم على العقل والحكمة والاستقرار العاطفي والسعادة المشتركة، وبالتالي
فإن الخالق يكون مركزه ونواته ومحوره وليس الحبيبة.
ومن هذا النمط من الحب برزت تلك العاطفة التي تحلى بها القديسون والصوفيون
الذين وجهوا مشاعر حبهم للخالق وحده لكونه الهدف الأعلى في نظرهم، ولأنه
وحده يمثل فكرة الخير. وحب الآخرين ليس سوى وسيلة إلى الوصول إلى الخالق.
وعرف اليونانيون القدماء نوعا آخر من الحب أطلقوا عليه (فيليا) أو عاطفة
الصداقة. إنها عاطفة متبادلة وقائمة على المساواة وتتمثل في الحب الإنساني
الخالص الذي يجمع بين شخصين حرين.
وقد خصص العشرات من المؤلفين العرب في القرون الوسطى رسائل وكتبا كاملة
لموضوع الحب والعشق فعالجوه من وجهات نظر مختلفة، انطلاقا من تكوينهم
الثقافي واعتقاداتهم. وكان الجاحظ (776 - 869م) واحدا من أهم الكتاب الذين
تناولوا هذا الموضوع في (كتاب النساء) و(رسالة القيان). وقد حلل الجاحظ
مفهوم الحب والعشق من وجهة نظر عقلانية وعارض فكرة المتعة واللذة، وتوجه
إلى العارفين بدعوة يطلب فيها أين يقوموا بمواجهة هذا المرض الذي يهدد
النفس الإنسانية ويستعبد الرجال.
وقد أدان الكثير من المشرعين والفلاسفة والكتاب دور القينة واتهموها بإثارة
ونشر الفساد في المجتمعات العربية. وكانت القيان، كما هو معلوم، يمتزن
باللباقة والمهارة في جذب قلوب الرجال، وكانت لهن معرفة واطلاع بالغناء
وإنشاد الشعر والرقص والطرب. ولم تتهم بإشاعة الفساد بين الرجال فحسب، بل
إنها اعتبرت أيضا سببا في تخنث بعضهم، وهو أمر كان يواجه معارضة ورفضا
شديدين. وكان وراء كل هذه المواقف شيء مهم وهو خوفهم من أن يصبح مصير
الدولة الاجتماعي والسياسي في أيدي رجال جعلوا إرادتهم وسلموا مصيرهم بيد
النساء. هذه النظرة العقلانية تكررت لدى الكثير من الكتاب العرب في مختلف
العصور مثل السراج (ت1106) في كتابه (مصارع العشاق)، وابن قيم الجوزية
(ت1350) في روضة المحبين ونزهة المشتاقين، أو الفيلسوف المشهور الغزالي
(ت1111) الذي درس في مؤلفه آداب النكاح وكسر الشهوتين عاطفة الحب والعشق،
منتقدا إياها ومعتبرا لها خروجا عن طريق الصواب.وقد قال في صدد إمكان تحول
الشهوة إلى عشق فذل فعبودية: قد تنتهي هذه الشهوة ببعض الضلال إلى العشق،
وهو غاية الجهل بما وضع له الوقاع وهو مجاوزة في البهيمية لحد البهائم، لأن
المتعشق ليس يقنع بإراقة شهوة الوقاع، وهي أقبح الشهوات، وأجدرها أن
يستحيا منه، حتى أعتقد أن الشهوة لا تنقضي إلا من محل واحد. والبهيمة تقضي
الشهوة أين اتفق، فتكتفي به، وهذا لا يكتفي إلا بشخص واحد معين، حتى يزداد
به ذلا إلى ذل وعبودية إلى عبودية.