مكانة
العلم بين الإسلام والمسيحية
إذا عقدنا مقارنة بين مكانة العلم في الإسلام ومكانته في المسيحية
المحرَّفة لوجدنا أن الكنيسة في العصور الوسطى كانت معادية تمامًا للعلم؛
فالكنيسة المسيحية منذ بداية عهدها بروما قد عزلت نفسها عن الثقافتين
الإغريقيَّة والرومانيَّة، وكانت الحضارة الرومانيَّة تحتضر إذ أتت عليها
غارات القوط؛ على أن الكنيسة الكاثوليكيَّة الشرقيَّة حين بلغت كامل
عنفوانها قد شنَّت اضطهادها على الفلاسفة والعلماء الوثنيين، وأغلقت مدرسة
أثينا، وضربت بيد من حديد على الفلسفة الإغريقيَّة في الإسكندريَّة، ورأت
الكنيسة أن الطريق الوحيد لتطهير الرُّوح هو طريقها إلى الله، والضلال هو
البحث عن الحقيقة في غير الكتاب المقدَّس والتفكير والتمحيص في أمور
دنيويَّة[1].
رأي المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه
وتؤكِّد هذه الحقيقة المستشرقة الألمانيَّة زيجريد هونكه[2] حين قارنت بين
العلم في نظر الإسلام والعلم في نظر المسيحية في الغرب الأوربي خلال العصور
الوسطى، فذكرت كيف أن الرسول r أوصى كل مؤمن -رجلاً كان أو امرأة- بطلب
العلم، وجعل من ذلك واجبًا دينيًّا، وكيف أنه r كان يرى في تعمُّق أتباعه
في دراسة المخلوقات وعجائبها وسيلة للتعرُّف على قدرة الخالق، لافتًا
أنظارهم إلى علوم كل الشعوب، ثم أتبعت ذلك بقولها: "وعلى النقيض تمامًا
يتساءل بولس الرسول مقرًّا: ألم يصف الربُّ المعرفة الدنيويَّة
بالغباوة؟"[3].
كما ذكرت تعريف القديس أوغسطينوس[4] محور المعرفة قائلاً: "أمَّا الربُّ
والرُّوح فإني أبغي معرفتهما، فالبحث عن الحقيقة هو البحث عن الله، وهذا لا
يستدعي معونة من الخارج، والمصدر الوحيد لتلك المعرفة هو الكتاب
المقدَّس"[5].
وأوضحت زيجريد هونكه كيف وصل بهم الأمر إلى اعتبار كل من ينادي بفكرة
علميَّة جديدة -ككُرَوِيَّة الأرض مثلاً- أنه كافر ضال، واستدلَّت على ذلك
بأقوال لاكتانتيوس[6] معلِّم الكنيسة معلِّقًا على ما يدَّعيه البعض من أن
الأرض كُرَوِيَّة، حيث قال متسائلاً مستنكرًا: "هل هذا من المعقول؟! أيُعقل
أن يجنَّ الناس إلى هذا الحدِّ؛ فيدخل في عقولهم أن البُلدان والأشجار
تتدلَّى من الجانب الآخر من الأرض، وأن أقدام الناس تعلو رءوسهم؟!". ملعون
من كان يقتنع أو يقبل تفسيرًا علميًّا لحوادث الطبيعة، خارج عن طاعة الربِّ
من يشرح أسبابًا طبيعيَّة لبزوغ كوكب أو فيضان نهر، بل لمن يعلِّل علميًّا
شفاء قدم مكسورة أو إجهاض امرأة؛ فتلك كلها عقوبات من الله أو من الشيطان،
أو هي معجزات أكبر من أن ندركها[7]!
الصراع بين الدين والعلم
وقد حدث لذلك صراعٌ بين الدين والعلم في أوربا، شُلَّت فيه حركة العلم، في
أواسط القرن السادس عشر الميلادي، ولم يتوقف ذلك إلا عند بداية النهضة
العلمية والثورة العلمية الأوربية، والانقلاب على الكنيسة.
ومن أمثلة ذلك أن كوبرنيكس[8] توصَّل عام (1543م) إلى دوران الأرض، وأن
الشمس هي مركز الكون وليس الأرض كما كان معتقَدًا قبل ذلك، إلاَّ أن هذه
النتيجة العلميَّة كانت كارثة في أوربا، فقد رفضت الكنيسة بميزان "الحقائق"
الإنجيليَّة، فرأت أنه يتناقض مع معتقداتهم؛ لأن الأرض إذ تتحول من أن
تكون مركز الكون إلى أن تكون بقعة صغيرة في كل هذا الكون ليس مجرد اكتشاف
علمي، بل هو ضربة قاسية لصميم العقيدة المسيحية التي تقول بأن الله تجسد في
هذه الأرض ليمنح أهلها الخلاص، لا تستوعب أن تتحول هذه الأرض إلى مجرد جرم
صغير وسط أجرام أخرى أكبر منها، فضلاً عن أن تكون تابعة للشمس؛ ولذا "كانت
نظرية مركزية الأرض تلائم بصورة معقولة لاهوتًا يفرض أن كل الأشياء خلقت
لمنفعة البشر. أما الآن فقد شعر هؤلاء البشر أنهم يترنحون فوق كوكب صغير
اختزل تاريخه إلى مجرد فقرة محلية في أخبار الكون... لا بد أن الناس حين
توقفوا للتأمل في المعاني التي تتضمنها النظرية الجديدة راحوا يتساءلون عن
صواب القول بأن خالق هذا الكون الهائل المنظم قد أرسل ابنه ليموت على هذا
الكوكب المتوسط الحجم. وبدا أن كل شعر المسيحية الجميل، "يتصاعد دخانًا"
(كما قال جوته[9] فيما بعد) تحت لمسة هذا الكاهن البولندي. وأجبر الفلك
القائل بمركزية الشمس الناس على أن يتصوروا الخالق من جديد في صورة أقل
ضيقًا في الأفق وأقل تجسدًا، وواجه اللاهوت أقوى تحدٍّ في تاريخ
الدين"[10].
فاضطُهد كوبرنيكس ولم يقوَ على مواجهة المعارضة العنيفة وعاش بعيدًا، ومات
في نفس السنة التي نشر فيها كتابه بعد تحمس أحد معجبيه، وبعد أن أدخل
تعديلات يُقِرُّ فيها بأن نظريته مجرد فروض تحتمل الخطأ[11]، ولكن حين تبنى
برونو[12] نظرية كوبرنيكس، بعد موته بثمانين عامًا، باعتبارها حقيقة سارعت
محكمة التفتيش إلى تحريم قراءة كتاب كوبرنيكس[13] وإلى إعدام برونو -الذي
طور آراء كوبرنيكس وأضاف إليها من عنده- حرقًا في ميدان عامٍّ[14]. وأفكار
كوبرنيكس كانت هي البداية والأساس لأفكار جاليليو[15]، ولأجلها تمت محاكمته
وهو على مشارف السبعين من عمره، وهي محاكمة تعمدت إذلاله حتى تراجع بصراحة
عن كل آرائه، ثم أعطته حكمًا بالسجن مدة مفتوحة، وأجبرته على قراءة مزامير
الكفارة السبعة يوميًّا لمدة سبع سنوات[16].
وهذا غيض من فيض، والأمثلة على ذلك جِدُّ كثيرة، ولم تتوقَّف فقط على
محاكمات كوبرنيكس وجاليليو وغيرهما مما ذكرناه، حتى إنهم توسَّعوا في تشكيل
محاكم التفتيش ضدَّ العلماء. قامت المحكمة بأعمالها حق القيام؛ ففي مدة
ثماني عشرة سنة -من سنة 1481م إلى سنة 1499م- حكمت على عشرة آلاف ومائتين
وعشرين شخصًا بأن يُحرقوا وهم أحياء فأحرقوا، وعلى ستة آلاف وثمانمائة
وستين بالشنق بعد التشهير فشهروا وشنقوا، وعلى سبعة وتسعين ألفًا وثلاثة
وعشرين شخصًا بعقوبات مختلفة[17]. كما أصدرت قرارات تُحرِّم قراءة كتب
جاليليو، وجيوردا نويرنو، ونيوتن[18] لقوله بقانون الجاذبيَّة، وتأمر بحرق
كتبهم، وقد أَحرق بالفعل الكاردينال إكيمنيس في غرناطة 8000 كتاب مخطوط
لمخالفتها آراء الكنيسة[19]!
وهذا الواقع الرهيب والمظلم عاشته أوربا قرونًا طويلة، سُمِّيت بالعصور
المظلمة، وتُسمَّى أيضًا بالقرون الوسطى، حيث استغرقت نحو ألف عام من
الزمان، وقد رسَّخ هذا الواقع في أذهان العلماء والفلاسفة (أمثال
ديكارت[20] وفولتير[21]) وعموم الناس أنه لا أمل في طلب العلم والابتكار
إلا بهدم سلطان الكنيسة، وإلا بمحو الدين تمامًا من الصدور، والاتجاه إلى
الإلحاد بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ؛ فأعلنوا صراحة معارضتهم للكتب
المقدَّسة كالتوراة والإنجيل؛ لاحتوائهما على ما يتعارض مع الحقائق
العلميَّة، ولاعتقادهم بأن الدين -كما رأوا- هو اضطهاد العلم والعلماء، وهو
الحَجْر على العقول. وقد راحوا يَدْعُون بعد ذلك إلى إعلاء العقل في
مقابلة النصوص الرئيسية، وحُجَّتهم أن العقل يستطيع إدراك الحقائق
العلميَّة، ويستطيع التمييز بين الخير والشرِّ.
وقد ساعدت الجمعية الوطنيَّة الفرنسيَّة في أعقاب الثورة الفرنسية على هذا
التحرُّر، وذلك بإصدار قرارات سنة (1790م)، كان من شأنها أن قصمت ظهر
الكنيسة، حيث سرَّحت الرهبان والراهبات، وأجبرت رجال الكنيسة على الخضوع
للدستور المدني، وأخذت تعيِّن هي رجال الكنيسة بدلاً من البابا، ثم جاء
القانون الذي أقرَّته الحكومة الفرنسيَّة عام (1905م) بفصل الدين عن الدولة
على أساس التفريق بينهما، وإعلان حياد الدولة تجاه الدين، كقاصمة أخرى
شجَّعت المعارضين للكنيسة على نقد نصوص الكتاب المقدَّس والكنيسة
بحرِّيَّة، كما أجبر هذا القانون رجال الكنيسة على أن يُقْسِموا يمين
الولاء للطاعة والشعب والملك والدستور المدني الجديد. وقد توالت القرارات
بعد ذلك لتعمَّ دول أوربا كلها؛ ليتقلَّص بذلك دور الكنيسة من محاولة
السيطرة على أمور العلم والسياسة، ولتنزوي تمامًا داخل الجدران، فتمارس فقط
الوعظ والترانيم[22]!
لكن الدين الإسلامي لم يكن يومًا كالكنيسة، ولم يقف أبدًا معارضًا أو
عائقًا في طريق المسلمين للعلم، سواء في الجانب النظري أو في الجانب العملي
التطبيقي، وإنما دعا إلى العلم وحثَّ عليه، مطلِقًا للعقل عنان الحرية،
ومطلق النظر والتفكر والتدبُّر، بعيدًا عن سطوة العادات والتقاليد والأهواء
والميول، وكيف لا وقد شرّف الله سبحانه العقل بالخطاب وجعله مناط التكليف!
فكان ثَمَّة بونٌ شاسع بين الفكر الإسلامي القائم على الحرية الفكرية
والصلة بين الله وبين العبد دون وسيط-ذلك الفكر الذي يمجّد العقل ويخاطبه-
وبين الفكر المسيحي في العصور الوسطى الذي يصادر حرية الفكر ويضع السلطان
الكنسي بين العباد وبين الرب، وهذا يوضح تمامًا لماذا احتاجت الحضارة
الأوربية في الغرب ألف عام قبل أن تأخذ في الازدهار التدريجي، مع أنها كانت
لديها الفرصة المناسبة لتبدأ قبل الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة بقرنين أو
ثلاثة، ثم تقوم نهضتها بعد ذلك على أكتاف المسلمين[23]