نجاة يوسف "عليه
السلام" من الهلاك المحتم
{وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ
يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ(19)وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ
وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ(20)}
{وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ} أي قوم مسافرون مروا بذلك الطريق، قال ابن
عباس: جاء قوم يسيرون من مدين إلى مصر فأخطأوا الطريق فانطلقوا يهيمون حتى
هبطوا على الأرض التي فيها جب يوسف، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران
{فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} أي بعثوا من يستقي لهم الماء {فَأَدْلَى
دَلْوَهُ} أي أرسل دلوه في البئر، قال المفسرون: لما أدلى الواردُ دلوه
وكان يوسف في ناحيةٍ من قعر البئر تعلَّق بالحبل فخرج فلما رأى حسنه وجماله
نادى {قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلامٌ} قاله على سبيل السرور والفرح لتبشير
نفسه وجماعته، قال أبو السعود: كأنه نادى البشرى وقال تعاليْ فهذا أوانك
حيث فاز بنعمة جليلة {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي أخفوا أمره عن الناس
ليبيعوه في أرض مصر متاعاً كالبضاعة، والضمير يعود على الوارد وجماعته
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي لا يخفى عليه سبحانه أسرارهم،
وما عزموا عليه في أمر يوسف {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ
مَعْدُودَةٍ} هذه هي المحنة الثانية في حياة يوسف الصدّيق وهي محنة
الاسترقاق أي باعه أولئك المارة الذين استخرجوه من البئر بثمنٍ قليل منقوص
هو عشرون درهماً كما قال ابن عباس {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} أي
وكانوا في يوسف من الزاهدين الذين لا يرغبون فيه لأنهم التقطوه وخافوا أن
يكون عبداً آبقاً فينتزعه سيّده من أيديهم، ولذلك باعوه بأبخس الأثمان.
تحقق بشارة يعقوب "عليه السلام" بنبوة يوسف "عليه السلام"
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ
عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا
لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ(21)وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(22)}
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي
مَثْوَاهُ} أي وقال الذي اشتراه من مدينة مصر لزوجته أكرمي إقامته عندنا،
قال ابن عباس: كان اسم الذي اشتراه "قطفير" وهو العزيز الذي كان على خزائن
مصر {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي عسى أن يكفينا
بعض المهمات إذا بلغ أو نتبناه حيث لم يكن يولد لهما ولد {وَكَذَلِكَ
مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} أي وكما نجيناه من الجب جعلناه متمكناً
في أرض مصر يعيش فيها بعز وأمان {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ
الأَحَادِيثِ} أي نوفقه لتعبير بعض المنامات {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى
أَمْرِهِ} أي لا يعجزه تعالى شيء {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا فضله {وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ} أي بلغ منتهى شدته وقوته وهو ثلاثون سنة {آتَيْنَاهُ حُكْمًا
وَعِلْمًا} أي أعطيناه حكمةً وفقهاً في الدين {وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ} أي المحسنين في أعمالهم.
محنة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ
الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي
أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(23)وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ
لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُخْلَصِينَ(24)وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ
وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ
بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(25)قَالَ هِيَ
رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ
قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ(26)وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ
وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ(27)فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ
قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ(28)يُوسُفُ
أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ
الْخَاطِئِينَ(29)}
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} هذه هي
المحنة الثالثة بعد محنة الجب والاسترقاق، والمراودةُ الطلبُ برفقٍ ولين
كما يفعل المخادع بكلامه المعسول المعنى: طلبت امرأة العزيز التي كان يوسف
في بيتها منه أن يضاجعها، ودعته برفق ولين أن يواقعها، وتوسَّلت إليه بكل
وسيلةٍ {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} أي غلّقت أبواب البيوت عليها وعلى يوسف
وأحكمت إغلاقها، قال القرطبي: كانت سبعة أبواب غلّقتها ثم دعته إلى نفسها
{وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} أي هلُمَّ وأسرع فليس ثمة ما يُخشى، قال أبو
حيّان: أمرته بأن يسرع إليها {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} أي عياذاً بالله من
فعل السوء، قال أبو السعود: وهذا إشارة إلى أنه منكر هائل يجب أن يعاذ
بالله تعالى للخلاص منه، لما أراه الله من البرهان النيِّر على ما فيه من
غاية القبح ونهاية السوء {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أي إن زوجك
هو سيدي العزيز الذي أكرمني وأحسن تعهدي فكيف أسيء إليه بالخيانة في
حَرَمه؟ {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي لا يضفر الظالمون
بمطالبهم، ومنهم الخائنون المُجازون الإِحسانَ بالسوء، ثم أخبر تعالى أن
امرأة العزيز حاولت إيقاعه في شراكها، وتوسَّلت إليه بكل وسائل الإِغراء،
ولولا أنَّ الله جلَّ وعلا حفظه من كيدها لهلك فقال {وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ} أي همَّت بمخالطته عن عزمٍ وقصدٍ وتصميم، عزماً جازماً على الفاحشة
لا يصرفها عنها صارف، وقصدت إجباره على مطاوعتها بالقوة، بعد أن استحكمت من
تغليق الأبواب، ودعوته إلى الإِسراع، مما اضطره إلى الهرب إلى الباب
{وَهَمَّ بِهَا} أي مالت نفسه إليها بمقتضى الطبيعة البشرية، وحدثته نفسُه
بالنزول عند رغبتها حديث نفسٍ، دون عزمٍ وقصد، فبين الهمَّيْن فرق كبير،
قال الإِمام الفخر الرازي: الهمُّ خطورُ الشيء بالبال أو ميلُ الطبع،
كالصائم في الصيف يرى الماء البارد فتحمله نفسُه على الميل إليه وطلب شربه،
ولكنْ يمنعه دينُه عنه {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} جوابه
محذوفٌ أي لولا حفظ الله ورعايتُه ليوسف، وعصمتُه له لخالطها وأمضى ما
حدثته نفسه به، ولكنَّ الله عصمه بالحفظ والتأييد فلم يحصل منه شيءٌ
البتَّة، قال أبو حيّان: نسب بعضُهم ليوسف ما لا يجوز نسبتُه لآحاد
الفُسَّاق، والذي أختاره أن "يوسف" عليه السلام لم يقع منه همٌّ البتَّة،
بل هو منفيٌّ لوجود رؤية البرهان كما تقول: "قارفتَ الذنبَ لولا أن عصمك
الله" وكقول العرب: "أنتَ ظالمٌ إن فعلتَ" وتقديره: إن فعلتَ فأنتَ ظالم
وكذلك هنا التقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها ولكنه وجد رؤية
البرهان فانتفى الهمُّ، وأمّا أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحدٍ منهم
شيءٌ من ذلك، لأنها أقوالٌ متكاذبة يناقضُ بعضُها بعضاً مع كونها قادحة في
بعض فساق الملل فضلاً عن المقطوع لهم بالعصمة، وقال أبو السعود: إن همَّه
بها بمعنى ميله إليها بمقتضى الطبيعة البشرية، ميلاً جبلياً، لا أنه قصدها
قصداً اختيارياً، ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته
له ونفرته عنه، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين، وهل هو إلا تسجيلٌ باستحالة
صدور الهمّ منه تسجيلاً محكماً؟ وما قيل: إنه حلَّ الهميان، وجلس مجلس
الختان، فإنما هي خرافاتٌ وأباطيل، تمجها الآذان، وتردّها العقول والأذهان
{كَذَلِكَ} أي ثبتناه على العفة أمام دوافع الفتنة والإِغراء لنصرف عنه
المنكر والفجور، وهذه آيةٌ بيِّنة، وحجةٌ قاطعة على أنه عليه السلام لم يقع
منه همٌّ بالمعصية، ولو كان كما زعموا لقال "لنصرفه عن السوء والفحشاء"
فلما قال {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} دلَّ على أن ذلك شيء خارج عن
الإِرادة فصرفه الله عنه، بما منحه من موجبات العفة والعصمة
{وَالْفَحْشَاءَ} أي لنصرف عنه الزنى الذي تناهى قبحهُ {إِنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله لطاعته،
واصطفاهم واختارهم لوحيه ورسالته، فلا يستطيع أن يغويهم الشيطان .. ثم أخبر
تعالى بما حصل من المفاجأة العجيبة بقدوم زوجها وهما يتسابقان نحو الباب،
ولا تزال هي في هياجها الحيواني {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} أي تسابقا نحو باب
القصر، هو للهرب، وهي للطلب {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} أي شقت
ثوبه من خلف لأنها كانت تلحقه فجذبته فشقت قميصه {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا
لَدَى الْبَابِ} أي وجدا العزيز عند باب القصر فجأة وقد حضر في غير أوان
حضوره، وبمهارة فائقة تشبه مهارة إبليس انقلب الوضع فأصبح الظالم مظلوماً،
والبريء متهماً {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلا
أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي ما جزاؤه إلا السجن أو الضرب ضرباً
مؤلماً وجيعاً {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ
مِنْ أَهْلِهَا} أي قال يوسف مكذباً لها: هي التي دعتني إلى مقارفة الفاحشة
لا أني أردت بها السوء {وشهد شاهدٌ من أهلها} قال ابن عباس: كان طفلاً في
المهد أنطقه الله، وكان ابن خالها، قال أبو حيّان: وكونُه من أهلها أوجب
للحجة عليها، وأوثقُ لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ
قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي إن كان ثوبُه
قد شُقَّ من أمام فهي صادقة وهو كاذب {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ
دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي وإن كان ثوبه قد شُقَّ من
الوراء فهي كاذبة وهو صادق، لأن الأمر المنطقي أن يُشق الثوب من خلف إن
كانت هي الطالبة له وهو الهارب {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ
دُبُرٍ} أي فلما رأى زوجها أن الثوب قد شُقَّ من الوراء {قَالَ إِنَّهُ
مِنْ كَيْدِكُنَّ} أي إن هذا الأمر من جملة مكركن واحتيالكنَّ أيتها النسوة
{إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} تأكيد لما سبق ذكره أي مكركنَّ معشر النسوة
واحتيالكنَّ للتخلص مما دبرتُنَّ شيءٌ عظيم {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}
أي يا يوسف أكتم هذا الأمر ولا تذكره لأحد، يقول سيد قطب عليه الرحمة
والرضوان: وهنا تبدو صورةٌ من "الطبقة الراقية" في المجتمع الجاهلي، رخاوةٌ
في مواجهة الفضائح الجنسية، وميلٌ إلى كتمانها عن المجتمع، فيلتفت العزيز
إلى يوسف البريء ويأمره بكتم الأمر وعدم إظهاره لأحد، ثم يخاطب زوجهُ
الخائن بأسلوب اللباقة في مواجهة الحادث الذي يثير الدم في العروق
{وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} أي توبي واطلبي المغفرة من هذا الذنب القبيح،
وكأن هذا هو المهم محافظة على الظواهر {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}
أي من القوم المتعمدين للذنب، وفي هذا إشارة إلى أن العزيز كان قليل
الغَيْرة حيث لم ينتقم ممن أرادت خيانته، وتدنيس فراشه بالإِثم والفجور،
قال ابن كثير: كان زوجها ليِّن العريكة سهلاً، أو أنه عذرها لأنها رأت ما
لا صبر لها عنه.