فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته ، عنهم العذاب الذي كان قد اتصل بهم سببه ، ودار على رءوسهم كقطع الليل المظلم .
ولهذا قال تعالى : " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها "
أي هلا وجدت فيما سلف من القرون قرية
آمنت بكاملها ، فدل على أنه لم يقع ذلك
بل كما قال تعالى : " وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون "
وقوله : " إلا قوم
يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين " أي آمنوا بكاملهم .
وقد اختلف المفسرون : هل ينفعهم هذا الإيمان في الدار الآخرة .
فينقذهم من العذاب الأخروى كما أنقذهم من العذاب الدنيوي ؟
على قولين :الأظهر من السياق : نعم .
والله أعلم .
كما قال تعالى : " لما آمنوا "
وقال تعالى :
" وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فآمنوا فمتعناهم إلى حين " وهذا المتاع إلى حين لاينفي أن يكون معه غيره من رفع العذاب الأخروي .
. والله أعلم .
وقد كانوا مائة ألف لا محالة .
واختلفوا في الزيادة : فعن مكحول عشرة آلاف .
وروى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث زهير عمن سمع أبا العالية :
حدثني أبي بن كعب ، أنه سأل رسول الله
صلى الله
عليه وسلم عن قوله :
" وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون "
قال
: " يزيدون عشرين ألفاً "
فلولا هذا الرجل المبهم لكان هذا الحديث فاصلاً في هذا الباب .وعن ابن عباس : كانوا مائة ألف وثلاثين ألفاً ،
وعنه : وبضعة وثلاثين ألفاً .
وعنه وبضعة وأربعين ألفاً .
وقال سعيد بن جبير : كانوا مائة ألف وسبعين ألفاً .
واختلفوا : هل كان إرساله إليهم قبل الحوت أو بعده ؟
أو هما أمتان ؟
على ثلاثة أقوال : هي مبسوطة في التفسير .
* * *والمقصود
عليه السلام لما ذهب مغاضباً بسبب قومه ، ركب سفينة في البحر فلجت بهم ، واضطربت وماجت بهم وثقلت بما فيها
وكادوا يغرقون على ما ذكره المفسرون .
قالوا : فاشتوروا فيها بينهم على أن يقترعوا ، فمن وقعت
عليه القرعة ألقوه من السفينة ليتخففوا منه .
فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي الله
يونس فلم يسمحوا به ، فأعادوها ثانية فوقعت
عليه أيضاً ،
فشمر ليخلع ثيابه ويلقى بنفسه فأبوا
عليه ذلك . ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت
عليه أيضاً
لما يريده الله به من الأمر العظيم .
قال الله تعالى : " وإن
يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون * فساهم فكان من المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم " .
وذلك أنه لما وقعت
عليه القرعة ألقي في البحر .
وبعث الله عز وجل حوتاً عظيماً من البحر الأخضر فالتقمه وأمره الله تعالى ألا يأكل له لحماً ولايهشم له عظماً فليس لك برزق
فأخذه فطاف به البحار كلها .
وقيل إنه ابتلع ذلك الحوت حوت آخر أكبر منه .
قالوا : ولما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات ، فحرك جوارحه فتحركت ، فإذا هو حي فخر لله ساجداً
وقال : يارب .
. اتخذت لك مسجداً في موضع لم يعبدك أحد
في مثله .
وقد اختلفوا في مقدار لبثه في بطنه ، فقال مجاهد عن الشعبي : التقمه ضحى ولفظه عشية
وقال قتادة : فمكث فيه ثلاثاً
وقال جعفر الصادق : سبعة أيام .
ويشهد له شعر أمية ابن أبي الصلت :
وأنت بفضل منك نجيت يونساً وقد بات في أضعاف حوت لياليا
وقال سعيد بن أبي الحسن وأبو مالك : مكث في جوفة أربعين يوماً . .
والله أعلم كم مقدار ما لبث فيه .
والمقصود أنه لما جعل الحوت يطوف به في قرار البحار اللجية ، ويقتحم به لجج الموج الأجاجي ، فسمع تسبيح الحيتان للرحمن
وحتى سمع تسبيح الحصى لفالق الحب والنوى
ورب السموات السبع والأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى ، فعند ذلك وهنالك
قال ما قال بلسان الحال والمقال
كما أخبر عنه ذو العزة والجلال .
الذي يعلم السر والنجوى ، ويكشف الضر والبلوى ، سمع الأصوات وإن ضعفت ، وعالم الخفيات وإن دقت ، ومجيب الدعوات وإن عظمت ، حيث قال في كتابه المبين ، المنزل على رسوله الأمين ، وهو أصدق القائلين
ورب العالمين وإله المرسلين :
" وذا النون إذ ذهب " أي إلى أهله "
مغاضبا فظن أن لن نقدر
عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين "
" فظن أن لن نقدر
عليه "
أن نضيق
عليه .
وقيل معناه : نقدر من التقدير وهي لغة مشهورة ، قدر وقدر كما قال الشاعر :
فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ، ما تقدر يكن ، فلك الأمر " فنادى في الظلمات "
قال ابن مسعود وابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والحسن وقتادة والضحاك : ظلمة الحوت ، وظملة البحر ، وظلمة الليل .
وقال سالم بن أبي الجعد : ابتلع الحوت حوت آخر فصارت ظلمة الحوتين مع ظلمة البحر .
وقوله تعالى : " فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " .
قيل معنا فلولا أنه سبح الله هنالك ، وقال ما قال من التهليل والتسبيح ، والإعتراف لله بالخضوع والتوبة إليه والرجوع إليه للبث
هنالك إلى يوم القيامة
ولبعث من جوف ذلك الحوت .
وهذا معنى ما روى عن سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه .وقيل معناه : " فلولا أنه كان "
من قل أخذ الحوت له
" من المسبحين "
أي المطيعين المصلين الذاكرين الله كثيراً .
قاله الضحاك ابن قيس وابن عباس وأبو العالية ووهب بن منبه وسعيد بن جبير والضحاك والسدي وعطاء بن السائب والحسن البصري وقتادة وغير واحد . واختاره ابن جرير .
ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن عن ابن عباس أن رسول الله
صلى الله
عليه وسلم
قال له
: " يا غلام . . إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة " .
وروى ابن جرير في تفسيره ، والبزار في مسنده من حديث محمد بن إسحاق ، عمن حدثه ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال : سمعت أبا هريرة
يقول : قال رسول الله
صلى الله
عليه وسلم :
" لما أرأد الله حبس
يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت : أن أخذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً .
فلما انتهى به إلى أسفل البحر
يونس حساً
فقال في نفسه : ما هذا ؟
فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت : إن هذا تسبيح دواب البحر .
قال : فسبح وهو في بطن الحوت ، فسمعت الملائكة تسبيحه
فقالوا : يا ربنا . . إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة !
قال : ذلك عبدي
يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر .
قالوا : العبد الصالح ، الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟
قال : نعم .
قال ؟ فشفعوا له عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه
في الساحل كما قال الله : " وهو سقيم " ".
هذا لفظ ابن جرير إسناداً ومتناً . ثم قال البزار : لا نعلمه يروى عن النبي
صلى الله
عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد . كذا قال .
وقد قال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي وهب ، حدثنا عمى ، حدثني أبو صخر ، أن يزيد الرقاشي قال : سمعت أنس بن مالك
، ولا أعلم إلا أن أنساً يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم
يقول : " إن
يونس النبي
عليه السلام حين بدا
له أن يدعو بهذه الكلمات وهي في بطن الحوت كال : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش ، فقالت الملائكة : يارب . .
صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة .
فقال : أما تعرفون ذاك ؟
فقالوا : لا يارب ومن هو ؟
قال : عبدي
يونس .
قالوا : عبدك
يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة ؟
قالوا : يا ربنا . . أو لا ترحم ما كان يصنعه في الرخاء فتنجيه من البلاء ؟
قال : بلى . فأمر الحوت فطرحه في العراء " .
ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب به .
زاد ابن أبي حاتم : قال أبو صخر حميد بن زياد
فأخبرني ابن قسيط وأنا أحدثه هذا الحديث ، أنه سمع أبا هريرة يقول : طرح بالعراء ،
وأنبت الله
عليه اليقطينة .
قلنا : يا أبا هريرة . . وما اليقطينة ؟
قال : شجرة الدباء
قال أبو هريرة : وهيأ الله له أروية وحشية تأكل من خشاش الأرض
أو قال : هشاش الأرض
قال : فتفسخ
عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت .
وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيتاً
من شعره .
فأنبت يقطيناً
عليه برحمة من الله لولا الله
أصبح ضاويا
وهذا غريب أيضاً من هذا الوجه . ويزيد الرقاشي ضعيف ولكن يتقوى بحديث أبي هريرة المتقدم كما يتقوى ذاك بهذا . . والله أعلم .
وقد قال الله تعالى : " فنبذناه " أي ألقيناه
" بالعراء " وهو المكان القفر الذي ليس فيه شيء من الأشجار ، بل هو عار منها ،
" وهو سقيم " أي ضعيف البدن .
قال ابن مسعود : كهيئة الفرخ ليس
عليه ريش ،
وقال ابن عباس والسدي وابن زيد : كهيئة الصبي حين يولد وهو المنفوش
ليس
عليه شيء .
" وأنبتنا
عليه شجرة من يقطين "
قال ابن مسعود وابن عباس وعكرمة ومجاهد وسعيد ابن جبير ووهب بن منبه وهلال بن يساف وعبد الله بن طاووس والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخرساني وغير واحد : هو القرع .
قال بعض العلماء : في إنبات القرع
عليه حكم جمة ، منها أن ورقه في غاية النعومة ، وكثير وظليل ، ولا يقربه ذباب ، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره ، نياً ومطبوخاً ، ويقشره وببزره أيضاً .
وفيه نفع كثير وتقوية للدماغ وغير ذلك .
وتقدم كلام أبي هريرة في تسخير الله تعالى
له تلك الأروية التي كانت ترضعه لبنها وترعى في البرية ، وتأتيه بكرة وعشية .
وهذا من رحمة الله به ونعمته
عليه وإحسانه إليه .
ولهذا قال الله تعالى : " فاستجبنا له ونجيناه من الغم "
أي الكرب والضيق الذي كان فيه " وكذلك ننجي المؤمنين "
أي وهذا صنيعنا بكل من دعانا واستجار بنا .
قال ابن جرير : حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، حدثنا يحيى بن صالح ، حدثنا أبو يحيى ابن عبد الرحمن ، حدثني بشر بن منصور ، عن على بن زيد ، عن سعيد بن المسيب قال : سمعت سعد بن مالك - وهو ابن أبي وقاص - يقول : سمعت رسول الله
صلى الله
عليه وسلم يقول :
" اسم الله الذي إذا دعى به أجاب ، وإذا سئال به أعطى .
دعوة
يونس بن متى قال : فقلت : يا رسول الله . . هي
يونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟
قال : هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا بها ، ألم تسمع
قول الله تعالى :
" فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين"
فهو شرط من الله لمن دعاه به" .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر عن كثير بن زيد ، عن المطلب بن حنطب قال أبو خالد : أحسبه عن مصعب - يعني ابن سعد - عن سعد قال : قال رسول الله
صلى الله
عليه وسلم
: " من دعا بدعاء
يونس استجيب له "
قال أبو سعيد الأشج : يريد به :
" وكذلك ننجي المؤمنين " .
وهذان طريقان عن سعد .
وثالث أحسن منهما : وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن عمير ، حدثنا
يونس بن أبي إسحاق الهمداني ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد ، حدثني والدي محمد ، عن أبيه سعد - وهو ابن أبي وقاص رضي الله عنه - قال : مررت بعثمان بن عفان في المسجد فسلمت
عليه فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي
السلام ، فأتيت عمر بن الخطاب
فقلت : يا أمير المؤمنين . .
هل حدث في الإسلام شيء ؟
قال : لا .
وما ذاك ؟
قلت : لا ، إلا أني مررت بعثمان آنفاً في المسجد فسلمت
عليه فلأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام
قال : فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه
فقال :مامنعك ألا تكون رددت على أخيك
السلام ؟
قال : ما فعلت .
قال سعد :
قلت : بلى ، حتى حلف وحلفت .
قال : ثم إن عثمان ذكر
فقال : بلى ، وأستغفر الله وأتوب إليه ، إنك مررت بي آنفاً ، وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة
قال سعد : فأنا أنبئك بها ، إن رسول الله
صلى الله
عليه وسلم
ذكر لنا أول دعوة ، ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى الله
عليه وسلم فاتبعته
فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض
فالتفت إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال : " من هذا ؟
أبو إسحاق ؟ "
قال : قلت : نعم يا رسول الله ،
قال : " مه " ؟
قلت : لا والله ، الا أنك ذكرت لنا أول دعوة ، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك
قال : " نعم . .
دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت :
" لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " فانه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له "