pipawn ساكن مجتهد
الجنس : العمر : 31 عدد المساهمات : 1496 نقاط : 14976
| موضوع: الداعية الصامت السبت 25 سبتمبر - 16:48 | |
| إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71،70]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. حديثنا في هذه الأسطر -بعون الله- عن ذلكم الذي إن رئي ذكر الله تعالى، عن ذلكم الذي ما يفتر عن الدعوة إلى الله تعالى في سوقه ومتجره، وبيته ومدرسته، ومسجده وجامعته، وذهابه وإيابه، لا بلسانه وكلامه، وإنما بسلوكه وفعاله. حديثنا عن ذلكم الداعية الذي تذرف العيون لمجرد رؤيته، قبل منطقه وحديثه، وإنما تذرف المدامع لأنه ذكَرها بباريها، وهي الآن ما أدَت ما ينبغي لها تأديته تجاه ربها سبحانه. حديثنا عن ذلكم الذي يسلم اليهود والنصارى على يديه، دون أن ينطق لهم ببنت شفة في أمر الدين. حديثنا عن ذلك الذي إن بعت منه أو اشتريت، أو استأجرته أو استأجرك، أو عاملته أو عاملك، فألق له مقاليد أمرك، وأغمض عند معاملته عينيك؛ فإنك ستوفى حقك كاملاً، إن لم يزد لك فضلاً وكرماً. فإن قلت: حديثك في أناس ليسوا من أهل هذا الزمان، ولا نرى لهم نظيراً إلا في كتاب أو تحت تراب. فيقال: قد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن طائفة من أمته لا تزال على الحق قائمة بأمر الله، حتى يأتي أمر الله بالفناء، وتبدأ حياة جديدة، لا عمل فيها، وإنما آثار الأعمال والأقوال، تكون بارزة لأصحابها، فهذا الطائفة التي لا يضرها خذلان مخذل، ولا إرجاف مرجف، ولا خلاف مخالف، بشَر بها عليه الصلاة والسلام بقوله: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أَو خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس"[1]. فهذه بشارة ممن لا ينطق عن الهوى، ببقاء طائفة تقوم بأمر الله، و(أمر) نكرة في سياق النفي تفيد العموم، علاوة على أن (أمر) اسم جنس مضاف يفيد العموم أيضاً[2]، فهو عموم تلو عموم، يؤكدان أنهم قائمون بجميع أمور الدين ظاهراً وباطناً. وهذه الطائفة باقية في ظهورها بأمر الله على مر الأزمان؛ فـ(لا تزال) جملة فعلية تفيد التجدد والحدوث[3]، يعنى: كلما فنيت طائفة من هؤلاء تجددت أخرى مكانها، متلفعة شرع الله ظاهراً وباطناً. فهلم أخي لنمتع أبصارنا بالنظر لرياض الدعاة الصامتين، ليسري أريجها في كياننا؛ فنفوح دعوة وصلاحاً وسداداً في أقوالنا وأفعالنا. نعوت الداعية الصامت: 1. البصيرة في الدين: إن الداعية إلى الله سبحانه بدون بصيرة كحاطب ليل، وقد يفسد أكثر مما يصلح؛ لذلك كانت الدعوة إلى الله على بصيرة هي شعار محمد بن عبد الله -عليه الصلاة السلام- ومن سار على دربه، يقول الله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]. إن الداعية إلى الله سبحانه على غير بصيرة كمن يريد أن يقيم ظلاً أعوجَ لأصل معوج، أو يحرث في صخر أو يكتب في بحر؛ لأنه لا يدري بماذا يدعو، ولا من يدعو، ولا إلى ما يدعو، وقد ينفع الله سبحانه بطائفة من هؤلاء الدعاة إن أخلصوا، واقتصروا على ما علموا. إن الداعية إلى سبحانه المتلفع بجلباب العلم النافع، هو الذي يترك أثراً لا تمحوه الأيام، يترك آثاراً بارزة للعيان في نفوس مخالطيه ومعاشريه؛ لأنهم يرون الإسلام متمثلاً في صورة بشر، يخالطهم و يؤاكلهم و يشاربهم! وهذه هي صفة الداعية الأول عليه الصلاة والسلام، فقد كان قرآناً يمشي على وجه الأرض، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: " كان خلقه القرآن" [4] . فالداعية صاحب البصيرة يستفيد الناس من معاشرته، وإن لم يقصد إفادتهم، فما يصدر عنه من تصرف ذا بال إلا وفي قرارة نفوسهم أنه لم يفعل ذلك إلا لشرع أمره أو نهاه، بخلاف الداعية الجاهل؛ فالناس يعرفون المدى الذي يصل إليه، وأنه لا يسبر أفعاله بمسبار الشرع. ولا نعني بـ(البصيرة في الدين) أن يبلغ مرتبة الشافعي مثلاً، وإنما القدر الذي يعرف به ما يسوغ له فعله وما لا يسوغ من أمور حياته. 2. الزهد فيما أيدي الناس: إن الزهد فيما في أيدي الخلق، وعدم التطلع له من أعظم ما يؤثر في المدعوين؛ فهم يوقنون أن هذا الداعية لا يبغ الدنيا وزخارفها، فهي أحقر وأهون عنده من أن يبذل الدين - بتصنعه إياه- لنيل لعاعة منها؛ فحينها ينصب عليه القبول من الخلق، وقبلهم من الخالق سبحانه، فيؤثر في المدعوين تأثيراً لا يبلغه من أشحب صوته أمراً ونهياً، أو قضى يومه نصحاً وزجراً، إلا أن يشاء الله. وهذا الخلق السامق قد أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته الجامعة لأحد أصحابه بقوله: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس"[5] . قال المناوي -رحمه الله- في شرح هذا الحديث: " (وازهد فيما عند الناس) منها (يحبك الناس)؛ لأنّ طباعهم جبلت على حب الدنيا، ومن نازع إنساناً في محبوبه قلاه، ومن تركه له أحبه واصطفاه" [6]. وهذا كلام في غاية الروعة؛ فإن الناس قد عشقوا الدنيا إلا من رحم الله، ومن رحمهم الله ليسوا محلاً لدعوة الداعية إلا نادراً، وإنما المقصودون بها أصالة هم أولئك الذين خالطت الدنيا شغاف قلوبهم، وامتزجت بدمائهم، وتعلقت بها أفراحهم وأتراحهم، وولاؤهم وبراؤهم. فالحاصل: أن التطلع إلى ما في أيدي الخلق ينفرهم عادة من المتطلع، بغض النظر عن ما يحمل بين أروقته من مفاهيم وأفكار؛ فالداعية المتميز ينأى بنفسه عن ذلك.
3. التحلي بمحاسن الأخلاق: الداعية بلا خلق كالشجر بلا ثمر، والضرع بلا لبن، فهل منهما يا ترى من نفع؟ وذلك أنه قد يحمل علماً وهمة وحماساً لكن ينقصه حسن الخلق، فيعكس صورة سلبية قاتمة عن دين الله سبحانه، لدى من يرجى هدايته واستقامته، ويكون نفعه محصوراً غير متعد. ومحاسن الأخلاق وإن كانت مطلوبة شرعاً من كل مسلم، إلا أنها تزداد تأكيداً في حق من نصب نفسه داعية إلى دين الله، أو موقعاً عنه أحكامه، وكم –والله- ينفطر الفؤاد كمداً، وتدمع العين حزناً، عند أن نعاشر قوماً من أهل العلم، قد انتصبوا للفتيا وتعليم الناس الخير، ثم يبدوا منهم قصور باد للعيان في هذه القضية. وما أحسن ما قاله ابن القيم عليه -رحمة الله-: " ليس صاحب العلم والفتيا إلى شيء أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار؛ فإنها كسوة علمه وجماله، وإذا فقدها كان علمه كالبدن العاري من اللباس"[7]. وقد كان إمام الدعاة وقدوتهم صلى الله عليه وسلم أحسن الناس أخلاقاً، أسر أقواماً من الكفار بأخلاقه صلى الله عليه وسلم، فليكن لنا فيه أسوة حسنة. والدلالات على هذا الأمر في سيرته صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر، أبرزها -فيما يبدو لي- ما رواه أنس رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد غليظ الحاشية، فجبذه أعرابي بردائه جبذة شديدة؛ حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه، ثم قال: يا محمد! احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك؛ فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "المال مال الله وأنا عبده -ثم قال:- ويقاد منك يا أعرابي! ما فعلت بى؟" قال: لا، قال "لم؟" قال: لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر. وقالت عائشة -رضى الله عنها-: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً من مظلمة ظلمها قط، ما لم تكن حرمة من محارم الله، وما ضرب بيده شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما ضرب خادماً ولا امرأة. وجئ إليه برجل، فقيل: هذا أراد أن يقتلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لن تراع لن تراع، ولو أردت ذلك لم تسلط علي"[8]. فليكن لك أيها الداعية! فيه صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، وكن هيناً ليناً مع إخوانك المسلمين، تستقبلهم بالبشاشة والبشر، تحب لهم الهداية والاستقامة كما تحبها لنفسك، تنظر إلى عاصيهم ومقصرهم فيزداد قربك منه، وتوددك إليه؛ إشفاقاً عليه أن تدركه المنية وهو على ما يغضب ربه سبحانه. مر أبو الدرداء –رضي الله عنه- برجل قد أصاب ذنباً وكانوا يسبونه، فقال لهم: أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي[9]. 4. الترفع عن مواطن التهم: ينبغي للداعية إلى الله سبحانه أن ينأى بنفسه عن مواطن التهم، فلا يجعل عرضه مرتعاً لكل سفيه ومتكلم، يعبث به كيف شاء، بل يدفع عن نفسه التهمة أو ما يظن تهمة بكل ما يستطيع؛ لأن اتهامه بالسوء معناه إحراق لشخصيته الدعوية، فلا يقبل منه نصح؛ فيكون مهما أتعب نفسه كصائح في واد أو نافخ في رماد، إلا أن يشاء رب العباد. وقد كان إمام الدعاة صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الناس وأنزههم، ينأى بنفسه عن ذلك؛ فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في المسجد وعنده أزواجه فرحن، فقال لصفية بنت حيي: "لا تعجلي حتى أنصرف معك"، وكان بيتها في دار أسامة، فخرج النبي صلى الله عليه و سلم معها، فلقيه رجلان من الأنصار، فنظرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم أجازا[10]، وقال لهما النبي صلى الله عليه و سلم: " تعاليا –ولمسلم- (على رسلكما) إنها صفية بنت حيي"، قالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يلقي في أنفسكما شيئا"[11]. قال الإمام ابن دقيق العيد -رحمه الله- في شرح الحديث: "وفيه دليل على التحرز مما يقع في الوهم نسبة الإنسان إليه مما لا ينبغي، وقد قال بعض العلماء: إنه لو وقع ببالهما شيء لكفرا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تعليم أمته، وهذا متأكد في حق العلماء، ومن يقتدي بهم؛ فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب ظن السوء بهم، وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك تسبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم"[12]. 5. تفقد أحوال المدعوين وقضاء حوائجهم: مما لا شك فيه أن المرء عند أن يجد من يشاركه أفراحه وأتراحه، تزداد رقعة القبول له في القلب، وهذه سنة ماضية في الخلق. فالداعية الساعي في تفريج هموم الناس، وقضاء حوائجهم، يريدون عادة مقابلته بالمثل، وأعظم حاجة عند الداعية تقضى هي هداية الخلق إلى دين الله سبحانه؛ حتى يكتبوا في رصيده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، غير أنه لا ينقص من أجورهم شيئاً"[13]. فكن أيها الداعية مسارعاً في قضاء حوائج الخلق، وكن في عونهم حتى يكون الله في عونك، فإن فعلت فقد سلكت أخصر الطرق الموصلة إلى قلوبهم، فتأسرها، وتلقمها ما شئت، فاتق الله فيها. وفي هذا المقام نحط رحالنا، وينتهي بنا المطاف في رياض الدعاة الصامتين، وإن كانت أزهار هذه الرياض كثيرة، إلا أن ما ذكر فيه الكفاية، فإن كان من صواب فمن الله وحده، وإن كان من خطأ فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان. وصلى الله وسلم على إمام الدعاة نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. | |
|