لكنه مالبث إلا أن قال :
والله ما أبالي على أيِّ حالٍ أكون بعد أن أديت كتاب رسول
الله صلى
الله عليه وسلم , وركب راحلته وانطلق .
ولما سكت عن كسرى الغضب , أمر بأن يُدخل عليه عبد
الله ؛ فلم يوجد ...
فالتمسوه فلم يقفوا له على أثر ...
فطلبوه في الطريق إلى جزيرة العرب فوجدوه قد سَبَق .
فلما قَدِمَ عبد
الله على النبي
صلى
الله علية وسلم
أخبره بما كان من أمر كسرى وتمزيقه الكتاب ,
فما زاد عليه الصلاة والسلام على أن قال :
( مزق
الله ملكه ) ..
***أمَّا كسرى فقد كتب إلى [ باذان ]
نائبه على اليمن : أن ابعث إلى هذا الرجل الذي ظهر بالحجاز رجلين جلدين من عندك , ومرهما أن يأتياني به ...
فبعث [ باذان ]
رجلين من خيرة رجالة إلى رسول الله
صلى
الله عليه وسلم ,
وحملهما رسالة له , يأمره فيها بأن ينصرف معهما إلى لقاء كسرى دون إبطاء ...
وطلب إلى الرجلين أن يقفا على خبر النبي علية الصلاة والسلام
وأن يستقصيا أمره , وأن يأتياه بما يقفان عليه من معلومات .
***خرج الرجلان يغذّان السير حتى بلغا الطائف فوجدا رجالاً تجاراً من قريش , فسألاهم عن محمد
عليه الصلاة والسلام
فقالوا : هو من يثرب , ثم
مضى التجار إلى مكة فرحين مستبشرين , وجعلوا يهنئون قريشاً
ويقولون :
قرُّوا عيناً , فإن كسرى تصدا لمحمدٍ
وكفاكم شره .
أمَّا الرجلان فيمما وجهيهما شطر المدينة حتى إذا بلغاها لقيا النبي عليه الصلاة والسلام , ودفعا إليه رسالة [ باذان ]
وقالا له : إن ملك الملوك كسرى كتب إلى ملكنا [ باذان ]
أن يبعث إليك من يأتيه بك ...
وقد أتيناك لتنطلق معنا إليه , فإن أجبتنا كلمنا كسرى بما ينفعك ويكف أذاه عنك وإن أبيت فهو من قد علمت سطوته وبطشه وقدرته على إهلاكك وإهلاك قومك .
فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام
وقال لهما : ( اِرْجعا إلى رحالكما اليوم واْتِيا غداً )
فلمَّا غدوا على النبي
صلوات
الله عليه في اليوم التَّالي
قالا له : هل أعددت نفسك للمضي معنا إلى لقاء كسرى ؟
قال لهما النبي :( لن تلقيا كسرى بعد اليوم ... فلقد قتله
الله ؛ حيث سلَّط عليه ابنه [ شِيروَيْة ] في ليلة كذا ... من شهر كذا ... )
فحدقا في وجه النبي , وبدت الدهشة على وجهيهما ,
وقالا :أتدري ماتقول ؟! أنكتب بذلك [ لِباذان ] ؟! قال :
( نعم , وقولا له : إنَّ ديني سيبلغ ماوصل إليه مُلْكُ كِسرى , وإنك إن أسلمت أعطيتك ماتحت يديك , وملكتك على قومك )
***خرج الرجلان من عند الرسول
صلوات
الله عليه
وقدِما على [ باذان ]
وأخبراه الخبر ,
فقال : لئن كان ماقاله محمد فهو نبيٌّ , وإن لم يكن كذلك فسنرى فيه رأياً ...
فلم يلبث أن قدم على [باذان ]
كتاب [ شِيروَيْة ] وفيه يقول :
أما بعد فقد قتلت كسرى , ولم أقتله إلا انتقاماً لقومنا , فقد استحل قتل أشرافهم وسبي نسائهم وانتهاب أموالهم , فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن عندك .
فما إن قرأ [ باذان ] كتاب [ شِيروَيْة ] حتى طرحه جانباً
وأعلن دخوله في الإسلام ,
وأسلم من كان معه من الفُرْسِ في بلاد اليمن .
***هذه قصة لقاء عبد
الله بن حذافه لكسرى ملك الفرس ,
فما قصة لقائه لقيصر عظيم الروم ؟ لقد كان لقاؤه في خلافة عمر بن الخطاب رضي
الله عنه , وكانت له معه قصة من روائع القصص ...
ففي السنة التاسعة عشر للهجرة بعث عمر بن الخطاب جيشاً لحرب الروم فيه عبد
الله بن حذافه السهمي ...
وكان قيصر عظيم الروم قد تناهت إليه أخبار المسلمين وما يتحلَّوْن به من صدق الإيمان ورسوخِ العقيدة واسترخاص النفس في سبيل
الله ورسوله .
فأمر رجاله – إذا ظفروا بأسير من أسرى المسلمين – أن يبقوا عليه , وأن يأتوه به حيًّا ...
وشاء
الله أن يقع عبد
الله بن حذافه السهمي أسيراً في أيدي الروم ؛ فحملوه إلى ملكهم
وقالوا : إنَّ هذا من أصحاب محمدٍ السابقين إلى دينه قد وقع أسيراً في أيدينا ؛ فأتيناك به.
***نظر ملك الروم إلى عبد
الله بن حذافه طويلاً ثم بادره قائلاً :
إني أعرض عليك أمراً .
قال : وماهو ؟
فقال : أعرض عليك أن تَتَنَصَّرَ ... فإن فعلت ؛ خليت سبيلك , وأكرمت مثواك .
فقال الأسير في أنفةٍ وحزمٍ : هيهات ... إنَّ الموت لأحبُّ إليَّ ألف مره مما تدعوني إليه .
فقال قيصر : إني لأراك رجلاً شهماً ... فإن أجبتني إلى ماأعرضه عليك أشركتك في أمري وقاسمتك سلطاني , فتبسم الأسير المكبل بقيوده
وقال : والله لو أعطيتني جميع ماتملك , وجميع ماملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين مافعلت .
قال : إذن أقتلك .
قال : أنت وما تُريد , ثم أمر به فصلب ,
وقال لقنَّاصته – بالرميًّة - :
ارموه قريباً من يديه , وهو يعرض عليه التنصر فأبى .
فقال : ارموه قريباً من رجليه , وهو يعرض عليه مفارقة دينه فأبى .
عِند ذلك أمرهم أن يكفوا عنه , وطلب إليهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب , ثم دعا بقدرٍ عظيمة فصب فيها الزيت ورفعت على النار حتى غلت ثم دعا
بأسيرين من أسارى المسلمين , فأمر بأحدهما أن يلقى فيها فأُلقي ,فإذا لحمه يتفتت .
وإذا عظامه تبدو عاريةً ... ثم ألتفت إلى عبد
الله بن حذافه ودعاه إلى النصرانية , فكان أشدَّ إباءً لها من قبل .
فلما يئس منه ؛ أمر به أن يُلقى في القدر التي أُلقي فيها صاحباه فلما ذهب به دَمَعَتْ عيناه , فقال رجال قيصر لملكهم : إنه قد بكى ... فظنَّ أنه قد جزع
وقال : ردُّوه إليَّ .
فلما مَثُلَ بين يديه عَرَضَ عليه النصرانية فأباها .
فقال : ويحك , فما الذي أبكاك إذن ؟!
قال : أبكاني أني قلت في نفسي
تُلقى الآن في هذه القدر , فتذهب نفسك , وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد مافي جسدي من شعر أنفس فتلقى كلها في هذا القدر في سبيل
الله .
فقال الطاغية : هل لك أن تُقَبِّلَ رأسِي وأخلي عنك ؟
فقال له عبد الله : وعن جميع أسارَى المسلمين أيضاً ؟
قال : وعن جميع أسارى المسلمين أيضاً .
قال عبد الله : فقلت في نفسي : عدو من أعداء
الله , أُقَبِّلُ رأسه فيخلي عني وعن أسارى المسلمين جميعاً ,
لاضير في ذلك عليَّ.
ثم دنا منه وقَبَّل رأسه , فأمر ملك الروم أن يجمعوا له أسارى المسلمين ,
وأن يدفعوهم إليه , فدفعوا له .
***قَدِمَ عبد
الله بن حذافه على عمر بن الخطاب رضي
الله عنه , وأخبَرَهُ خَبَرَه ؛ فَسُرَّ به الفاروق أعظم سرور , ولمَّا نظر إلى الأسرى
قال : حقٌّ عَلَى كُلِّ مُسلِم أن
يُقبل رَأسَ عَبْد الله بين
حُذافَة ,وأنا أبْدَأ بذلِك ...
ثم قام وقبَّل رأسه ...
م / صور من حياة الصحابة .
د. عبد الرحمن رأفت الباشا .
منقول