pipawn ساكن مجتهد
الجنس : العمر : 31 عدد المساهمات : 1496 نقاط : 14978
| موضوع: الصرخة (ادوارد مونش) الجمعة 27 أغسطس - 16:39 | |
|
الصرخة (ادوارد مونش)
عندما رسم الفنان النرويجي ادوارد مونش (1863-1944) "الصرخة" سنة 1893 أراد أن يعبر عن كرب و ضيق ذلك الإنسان قبل أكثر من مئة عام من لاعدالة المرحلة على أعتاب قرن جديد ينذر بالرعب و البؤس الكارثي. كثيرون هم من يؤكدون بأن "صرخة" مونش لاتزال تُسمع حتى الآن في أرجاء المعمورة، و أنها تعلو ضد من يغتصب الزمان و المكان البشري. صرخة مضطرمة أمام قدرٍ لم يُعَش، و في حضرة حلمٍ كابوسي يرتوي من هاجرة موتٍ مستنسخ. البعض يرى في إدامة الصرخة تجلٍ لحروبٍ و خرائب تلوح في أفق القرن المتقدم حثيثاً نحو الحاضر.
عرف مونش الموت، و هو لا يزال صغيراً، حضره وهو يتسلل إلى الجسد العليل لكلٍ من أمه و أخته. وحينما كان في السابعة عشرة قرر أن يكون رساماً. في مدينة أوسلو طوّر بداياته الفنية، و منذ وقت مبكر في ثمانينات القرن التاسع عشر كان محاطاً بالمؤثرات التي مارستها الحركة البوهيمية النروجية على الفنانين الشبان. لم يكن بوهيميو العاصمة النرويجية بحال من الأحوال على توافق مع مجتمعهم، و مجمل أعمالهم الفنية و الأدبية كانت موجهة ضد جور و لامبالاة برجوازية المجتمع الصناعي و نفاق قيمها الأخلاقية و زيف مظاهرها الإجتماعية. حاول البوهميون الإصغاء لصوت الفرد المستلب الخائب، الذي طغى عليه صرير الآلات. و حينما رسم مونش في عام 1892 لوحته "غروب في شارع كارل جوهان" كان ينظر للبرجوازية بعيني بوهيمي أراد أن يعكس مناخ الكبت و التزمت الأخلاقي، وعزلة الفرد ضمن الكتلة البشرية التي تشغل خواء المدينة.
لعبت الأمسيات الجنائزية و السهر على الموتى دور الملهم لمونش أثناء انجازه لكثيرٍ من رسومه و التي تحمل بالمجمل ذلك الإحساس التراجيدي بالحياة، و الذي يميز بامتياز الأدب الاسكندنافي من سترندبرغ إلى ابسن و فلسفة كيركيجارد. أثارت لوحاته السخط و الإزدراء منذ أن أقام أول معرض له في أوسلو عام 1886، و في 1892 اعتبرت أعماله فضائحية لدى الجمهور و الصحافة البرلينية في ألمانيا. وصل إلى باريس و هو في سن الثانية و العشرين، و هناك تقلب قلقاً بين العلامات الأسلوبية لكل من الفنانين فان كوخ و غوغان و تولوز. كانت العاصمة الفرنسية تعيش أجواء معارضة حادة لمعطيات فرضها اقتصاد السوق و آلية العرض و الطلب. الفوضويون الفرنسيون ثابروا على إعلان حضورهم بشتى السبل حتى العنيفة منها، و من جانب آخر كان اليسار و النقابيون يتحركون لتحقيق مكاسباً مهمة لهم. في تلك الأوقات التاريخية رُسمت "الصرخة" ، فهل كان لمونش أن يتجاهل ما كان سائداً في أوربا الرأسمالية و العوامل البوهيمية المكونة لبداياته كفنان.
أدار مونش وجهه بعيداً عن الواقع الخارجي الذي تميزت به الإنطباعية، وإلتفت إلى تصوير دخيلة النفس و عالمها الجواني. كما عمل على تقويض التشكيل الموضوعي ليعبر عن وجهة نظرٍ ذاتية محضة. تشكل لوحة "الصرخة" واحدة من محموعة أعمال فنية متسلسلة تحمل عنوان "جدارية الحياة"، عالج الرسام فيها مواضيعاً شتى مثل الكآبة و الحب و الموت. و قد وصف مونش ظرف رسمها الآني قائلاً: "كنت أتنزه مع اثنين من أصدقائي، الشمس كانت تغرب حينما انقلبت السماء فجأة حمراء اللون. توقفت من شدة التعب و اتكأت على الحاجز، لم أر فوق المدينة و في الخليج الداكن الزرقة إلا دماء و ألسنة من لهب. كان رفيقاي قد تابعا المسير بينما بقيتُ أنا مسمراً في نفس الموضع مرتعدأً من الخوف، و أحسست أن صرخة أزلية كانت تلج الطبيعة بأسرها".
تعود الحركة التعبيرية التصويرية التي عرفتها ألمانيا بين 1910 و 1922 إلى لوحات مونش، حيث تجد فيها جذوراً لرؤيتها التقنية و الفكرية. تعتبر لوحة "الصرخة" الأكثر تعبيرية في الرسم الحديث، و قد أثرت بنحو لا يدعو للشك على فناني "الجسر" الذين شغلهم تصوير ذلك الخوف أمام انقلاب القرن و قلق الفنان الذاتي. نسخ مونش "الصرخة" و كرر رسمها في عشرات اللوحات، و كأن بغيته كانت التأكيد على ردة فعل الفرد تجاه معطيات الواقع و ما سينتج عنها.
استخدم الألوان النقية و بصفائها و قوتها عكس، من خلال الإنفعال، اضطراب المناخ الذي يحيط بالذات و بالكائن البشري على حدٍ سواء، كما سنرى بعد حين. من جهة أخرى تبدو "الصرخة" كتصويرٍ للصوت، و توقيعٍ له وكأنه ينزلق في هوات سحيقة بلا قعر. من هنا يمكن القول أن مونش مزج اللون (حس البصر) بالصوت (حس السمع) ليهيج الأحاسيس و يقوّض حيادية التلقي، و يقود التماهي مع "الصرخة" إلى حدوده الانفعالية القصوى.
خلق الفنان الجسد و منظر العمق بشطباتٍ متعرجة وملتوية لريشةٍ تعمل بشكلٍ دؤوب على مسخ ذاتية الشخوص و موضوعية الواقع فوق قماش الرسم. هكذا مورست على بطل اللوحة تشويهات غروتسكية حادة، فالرأس يكاد يكون جمجمة موت مطموسة الملامح، و اليدان تستندان على الصدغين و كأن عنف الصرخة أكبر من أن يحتمله الشخص نفسه. يشبه الشخص الذي يصرخ في اللوحة تلك التجسيدات النحتية في تيجان الأعمدة من الطراز الرومانسكي، و التي تصرخ توقاً لإنعتاقها الصوفي من العالم الأرضي. إلا أن صرخة مونش المتجسدة تكثف و تؤسلب العذاب البشري و اليأس و فقدان الأمل من أي انعتاق. تقسم اللوحة إلى قسمين لا شئ واقعي فيهما: الأول وهو الأقرب، يحدده نطاق الجسر المشاد فوق المياه المضطربة كاستعارة عبور و برزخ انتقال. يقف الشخص الذي يصرخ في البعد الأول، بينما الشخصين الذين يتابعان المسير بهدوء يتواجدان في البعد الأعمق. و العلاقة بالمجمل بين هذه الشخوص هي علاقة انفصال، و انعدام تواصل، حيث تختفي أية إشارة تدل على مشاعر التضامن. يولي الإثنان في نهاية المنظور ظهريهما لمن يصرخ و للمتلقي معاً، و كأنهما يعلنان غياب التكافل البشري. أما القسم الثاني فيضم المنظر في الخلفية العرضية، حيث يُلغى المنظور الذي طبق على القسم السابق، ويُرفع الأفق لتمتزج السماء بالأرض و النهر. يوحّد اللون الناري عناصر الطبيعية الثلاث: الهواء و التراب و الماء، و ينفث فيها الروح، و يقيم بينها و بين نطاق الجسر و شخوصه وشائج علاقة لا تنفصم. هكذا روح النار، كلون و كعنف، في التكوين هي تجلٍ لحلولية الصرخة في كيان العمل الفني ككل حيث كل شئ يغرق في فكرة الإنعزال و الوحدة. و لذلك "الصرخة" هي صرخة ذات الفنان كفرد إلا أنها أيضاً صرخة البشرية أمام الهول الذي تكتنفه الأيام.
| |
|