عوامل و
أسباب ظهور المسرح في العالم العربي
إذا كنا قد وجدنا للقصة في أدبنا الشعبي صورا مختلفة فإن المسرحية لم يكن
لها عندنا أصول لسبب بسيط ، هو أنه لو يوجد عندنا مسرح قديم حتى قدوم و
وصول الحملة الفرنسية بلادنا التي نقلت لنا نمادج من المسرح الفرنسي لكننا
لم نتأثر به في حياتنا الأدبية لأنه كان باللغة الفرنسية . إنما يأتي هذا
التأثر بعدما نشأت فيما بيننا و بين الغرب العلاقات الأدبية ، و هي لم تنشأ
إلا منذ أواسط القرن التاسع عشر ، بل بعدما مضى شطر غير قليل من النصف
الثاني حين اعتلى أريكة مصر إسماعيل ، فقد أخدنا نتأثر بالحضارة الغربية و
نمعن في هذا التأثر ، فأنشئت دار الأوبرا و مثلث فيها روايات غنائية
إيطالية . و في هذا التاريخ أنشأ يعقوب صنوع مسرحا
بالقاهرة مثل عليه كثيرا من المسرحيات المترجمة و التي ألفها، و قد أطلق
عليه المصريون اسم موليير مصر لبراعته في
التمثيل الهزلي و ما يقترن به من نقد اجتماعي . و لم يكن يمثل باللغة
العربية الفصحى ، إنما كان يمثل بالعامية الدارجة ، فمسرحه و تمثيلياته
يخرجان عن دائرة أدبنا العربي الحديث.
ولم تلبث الفرق التمثيلية السورية و اللبنانية أن وفدت على مصر و أنشأت لها
مسارح في الإسكندرية ثم القاهرة . و كانت هذه الفرق تمثل روايات فرنسية
مترجمة ، بحيث تلاءم النظارة ، و بعبارة أدق ممصرة حتى يتذوقها الجمهور و
يجد فيها متاعه . و التمصير يقل و يكثر حسب من يقوم به ، فتستبدل الأسماء
بأسماء مصرية ، وقد تستبدل الحوادث نفسها ، ولا مانع أحيانا من استخدام
الأسلوب المنمق بالسجع و الشعر.
وكأنما كانت الجهود موجهة أولا لهذه الحركة من التمصير ، حتى يستطيع هذا ا
لنبات الغريب أن يعيش في البيئة الجديدة . و لذلك كان التمصير في المسرحية
أوسع جدا من التمصير في القصة، حتى لتنقطع العلاقة أحيانا بينها و بين
الأصل . وأسرف الممصرون في وضع الأشعار التي تغنى في المسرحيات ، حتى يرضوا
ذوق الجمهور الذي كان يعجب بالغناء و أناشيد الذكر و الذي تعود الاستماع
إلى الأوبراالإيطالية . ومن هنا كان مسرحنا في القرن الماضي وشطر كبير من
هذا القرن مزيجا من التمثيل و الغناء ، و كان أصحاب هذا المسرح ينقلون
غالبا عن المسرح الفرنسي الكلاسيكي عن راسين و كورني و موليير، و مرجع ذلك
إلى السوريين و اللبنانيين الذين تمصروا و قاموا بيننا بالتمثيل مثل سليم
النقاش وأبي خليل القباني و إسكندر فرح لأن
ثقافتهم غالبا كانت فرنسية و كذلك بداية إقبال المصريين أنفسهم على هذه
الثقافة منذ أوائل القرن الماضي.
و لم تمضي مدة طويلة حتى أخد المصريون يشاركون في هذا الفن الجديد ،
فاشتركوا أولا مع الفرق السورية و اللبنانية ، ثم استقبلوا و أنشئوا فرقا
مختلفة مثل عبد الله عكاشة و فرقة الشيخ سلامة حجازي المطرب المشهور ، و قد وطد بقوة
المسرح الغنائي ، و مثل فرقة عزيز عيد وقد عنى
بالتمثيل الهزلي . ولا نتقدم طويلا في هذا القرن العشرين حتى يعود جورج أبيض من باريس سنة 1910 بعد دراسته لفن التمثيل دراسة متقنة ، وسرعان
ما ألف فرقة مسرحية في سنة 1912 و
أخد يمثل على قواعد درامية سليمة . وفي نفس السنة كون بعض الهواة جمعية أنصار التمثيل لغرض إرسائه على أصوله الفنية
الصحيحة و كان ممن انضم إلى هذه الجمعية عبد الرحمن
رشدي و محمد تيمور .
وينضم الشيخ سلامة حجازي إلى جورج أبيض و
يؤلفان فرقة في سنة 1914
ظلت سنتين متواليتين . ونمضي اثناء الحرب الأولى فيؤلف عبد
الرحمن رشدي فرقة مسرحية و إن لم تظل طويلا ، و يظهر نجيب الريحاني باستعراضاته الغنائية و الهزلية و
يبتكر شخصية كشكش بك عمدة كفر البلاص و كون مع عزيز عيد فرقة تعنى بالمغناة القصيرة الأوبريت.
و كانت هذه الفرق جميعا تعتمد على ما يترجم و يمصر لها من تمثيليات و
مغنيات غربية ، و أخد بعض الهواة و الممثلين يؤلفون مسرحيات عربية استمد
فيها من قصص ألف ليلة و ليلة و ألوانها الخيالية و من التاريخ العربي
الإسلامي و صوره القومية ، ومن الحب و العواطف الوجدانية مصورين مجتمعهم و
ما فيه من دعوات إصلاحية و حركات وطنية و اكثر هذه الأعمال كان ضعيفا ، و
لذلك لم يدخل في تراثنا الأدبي.
عل أنه ينبغي أن نقف قليلا عند ثلاثة ، حذقوا – بفضل ثقافتهم الغربية – فن
التأليف المسرحي ، و هم فرح أنطون و إبراهيم
رمزي و محمد تيمور . وقد الف أولهم في سنة 1913 مسرحية
مصر الجديدة و مصر القديمة و هي مسرحية اجتماعية صور فيها عيوب
مجتمعنا العربي حينئد و ما تسرب إليه من مساوئ الحضارة الغربية و مفاسدها.
و هي ضعيفة في بنائها المسرحي ، غير أنه أتبعها في سنة 1914 بمسرحية تاريخية ، هي مسرحية السلطان صلاح
الدين و مملكة أورشليم و هي قوية في تصميمها المسرحي و في رسم شخوصها و
تدفق الحوار و حيويته ، و قد صور فيها الصراع الحاد بين الشرق الشجاع
المسلم و الغرب المستعمر الماكر ، ناثرا خلال ذلك آراءه الاجتماعية و
الوطنية . أما إبراهيم رمزي فبدأ مند سنة 1892 يحاول صنع المسرحيات ، غير أنه لم ينضج إلا
بعد عودته من البعثة إلى إنجلترا و توفره على دراسة هذا الفن و نقل بعض
درره الأوربية . و ربما كانت مسرحية أبطال المنصورة التي
كتبها في سنة 1910 خير
مسرحياته جميعا ، و هي مسرحية تاريخية عرض فيها صورة حية من البطولة
المصرية في أثناء الحروب الصليبية عرضا تمثيليا رائعا. و نمضي فنلتقي ب محمد تيمور الذي توفي شابا في سنة 1921 و كان قد سافر بعد تخرجه
من الحقوق إلى فرنسا فعكف على دراسة التمثيل ، و عاد يحاول النهوض به ،
فكان يكتب فيه و ينقد و يمثل وما لبث أن ألف أربع مسرحيات هي مسرحية : العصفور في قفص و عبد الستار
أفندي و الهاوية و العشرة
الطبية و هي وحدها التي اقتبسها عن مسرحية فرنسية ، غير أنه مصرها
وجعل حوادثها تجري في عصر المماليك ، و نقد فيها بعنف تصرفات الطبقة
التركية. و قد راعى في مسرحياته أصول الفن التمثيلي مراعاة دقيقة ، غير أنه
كتبها بالعامية.
و تضع الحرب العالمية الأولى في هذا القرن أوزارها ، و ينشط التمثيل الهزلي
و الغنائي ، و يعود يوسف وهبي من إيطاليا، و ينشئ فرقة استعراضية و يقنعه عزيز عيد و زكي طليمات بأنشاء فرقة للدراما الرفيعة ،
و تنشأ فرقة رمسيس و تنشط بجانها فرقة جورج أبيض
، و يأخد كثيرا من الكتاب في تأليف المسرحيات الإجتماعية ، و يشهر أنطون
يزبك بمسرحياته العنيفة مثل عاصفة في البيت و
مسرحية الذبائح و يتخصص يوسف وهبي بتمثيل هذا
النوع بينما ينشط نجيب الريحاني و علي الكسار
في التمثيل الهزلي. على أننا لانصل إلى سنة 1928 حتى يصيب كل هذه الفرق ركود قليل ، و تنشأ
الدولة في سنة 1934 الفرقة
القومية ، كما تنشأ المعهد العالي للتمثيل ، غير أن الركود يظل جاثما على
مسارحنا بسبب ظهور السينما . إلا ما كان من مسرح نجيب
الريحاني ، و تحاول ثورتهمالمجيدة النهوض بالمسرح ، فيعود ثانية إلى
النشاط و بذلك ترد إليه قواه.
و إذا تركنا المسرح إلى التأليف المسرحي وجدناه ينهض نهضة رائعة منذ العقد
الرابع من هذا القرن إذ ظهر توفيق الحكيم فوثب به وثبة لم يكن يحلم بها كل
من سبقوه ، فقد أرسى قواعده في النثر ، كما أرسى هذه القواعد شوقي في الشعر
، ، يسعفه في ذلك ثقافة إنسانية واسعة و ثقافة مسرحية دقيقة ، و تتزاوج
الثقافتان مع روحه المصرية العربية ، فإذن لمصر كاتب مسرحي من نوع إنساني
بديع.
وتلقى مسرحياته رواجا واسعا لما تحتفظ به من أصول الفن المسرحي و ما تحتوي
من عناصره و مقوماته فهي أعمال مسرحية تامة ، لا يقلد فيها توفيق كاتبا
غربيا بعينه ، بل يستمد من مواهبه و من ىبيئته و روحه المصرية العربية .
وحقا أنه يغلب على شخوصه التفكير الفلسفي و التجريدي ، و لكن هذا مذهبه ، و
هو يدل دلالة واضحة على رقي حياتنا العقلية ، فقد أصبح لكتابنا أو لبعضهم
على الأقل فلسفة تستهوي العقول و القلوب .و تعتمد فلسفة توفيق على الإيمان
بقصور العقل و الإتحاه نحو الروحيات التي تجري في حياة الشرقيين و أعماق
نفوسهم .
و أخد هذا المجال المسرحي يجذب إليه كثيرين من الجيل الجامعي و غيره ، و من
أهم من جذبهم إليه محمود تيمور ، و كان يكتب مسرحياته أولا بالعامية كأخيه
محمد ، ثم نقل من العامية إلى الفصحى بعض مسرحياته و أنشأ أخرى على اللسان
الفصيح من أول الأمر ، و هو في أكثر مسرحياته مثل قصصه يعنى بالجوانب
الإجتماعية في بيئته ، و يمد هذه البيئة فتشمل الريف و حياة الفلاحين . و
قد يستمد في مسرحياته من التاريخ العربي. و هو دائما يمسح على علمه
بتحليلات نفسية يصور فيها الطبيعة الإنساتية ، و من هنا كان صراع مسرحياته
غالبا يدور بين العقل و الغريزة الباطنية .
و بجانب تيمور وتوفيق الحكيم تصنع محاولات كثيرة في هذا الفن المصري الحديث
، و كثيرا منها يستحق الثناء لما يبذله فيه أصحابه من إبداع و مهارة . و
على هذا النحو استطاعت مصر أن تحققق لنفسها نهظة أدبية رائعة ، فإنها رفعت
كل الحواجز التي كانت تفصل بينها و بين الآداب الكبرى في العالم ، فأصبح
لها لاأدب كبير فيه المقالة و القصة و المسرحية و الشعر التمثيلي واصبح
كثير من هذا الأداب يترجم إلى سائر اللغات .
كان المسرح و ما يزال هو النقطة التي يبدأ منها ، عادة انطلاق الشرارة نحو
الثقافة و التطور و المساعدة في تطوير المجتمعات ، و الوصول إلى حال أفضل .
و على مر الأزمان خضع للتحوير و التشكيل سواء كان ذلك في شكل خشبته ، أم
في شكل العروض التي تمثل داخله ، بل إن دور التمثيل نفسها كانت موضعا
للتغيير و التبديل ، فقدم الأدب المسرحي في الميادين و خارج المعابد ، و
داخل الكنائس ، ومر بمراحل كثيرة حتى أقيمت له دور التمثيل الحالية . نشأت
الدراما أي المسرحية من الاحتفالات و الأعياد الديونيزية
و من الطقوس و الرقصات و الأناشيد التي كانت تنشد ، و من المواكب التي كان
يقيمها اليونانيون القدامى ، و كان المكان المعد لتلك الحفلات يسمى مسرحا.
المسرحية أو الدراما العالمية الحالية ، و هذا المسرح الجماعي الذي نعيش
فيه من الرقص البدائي إلى التمثيلية الحديثة التي تشبه العرض الصحفي ، و من
الطقوس الدينية إلى التمثيل الدنيوي ، و من المأساة الحديثة التي تشبه
العرض الصحفي ، و من الطقوس الدينية إلى اتمثيل الدنيوي ، و من المأساة
اليونانية إلى خطافات الصور المتحركة ، كل ذلك في مظاهره المربكة المحيرة
يسجل لنا تعريفات عن المسرح و عن المسرحية أو الدراما ، و إذا استطاع أحدنا
أن ينشر صورة للمسارح المختلفة التي تمثل فوقها الحياة ، لأدرك من فوره
أنه لا يمكن أن يهتدي إلى التعريف الجامع المانع ، الذي يتسع للتعبير
بالكلام عن عناصر الفن و طرزه ، و أحواله و عن مظاهر الحياة المسرحية و
التمثيلية و اتجاهاتها. إن الفن المسرحي هو الفن الذي تلتقي عنده جميع
الفنون ، إذ ليس بين الفنون فن كفن المسرح استطاع أن يصل موهبة الخلق الفني
الغامضة بموهبة التلقي و الاستقبال .
المسرح ليس مجرد و سيلة تلرفيهية ، و إنما يتخطى دوره ذلك ففي فترات عظيمة
جاهد كتابه و ممثلوه و مخرجوه في اكتشاف نواحي الجمال فيه ، ففن المسرح
يعتمد في جوهره على حصيلة المعرفة في شمولها العام ، و على قدرة الإنسان
على الاستكشاف و التعجب و التأمل . كان المسرح عند الإريق مظهرا دينيا ، و
عند الرومان ما يشبه المتعة الرخيصة التي يتكفل بها الرقيق من أجل الترفيه
عن مالكيهم ، و كان للكنيسة في عهدها الأول شرا ينبغي استئصاله ، غير أن
الكنيسة عادت بعدها بعدة قرون تحتضن مسرحيات الأسرار و المعجزات ، كما بات
جمهور اليوم يسترجع الأعمال الجيدة للمسرحي اليوناني " سوفوكليس " و
الإنجليزي ، بتقديس ويظن النقاد أن هؤلاء الكتاب ليسوا بشرا عاديين ."وليم
شكسبير" و االسويدي August
Strindberg
إن المسرح بسبب إسهامه في تلبية احتياجات الإنسان الجمالية و الذهنية ، و
بسبب نوع الجمهور الذي يرتاده ، و بسبب الرابطة الوثيقة التي تربط جمهوره
بممثليه ، ثن بسبب مختلف القيم الأخرى ، لكل هذه الأسباب يبدو مقدرا له أن
يعيش بضعة آلاف أخرى من السنين و حتى لو كتب للمسرح المختلف أن يحقق تنبؤا ت
المتشائمين القديمة ، ويحل به الموت فسوف يبقى المسرح التربوي حقلا طبيعيا
للتدريب و نقطة انطلاق للطالب في أيفرع من فروع الفنون المسرحية ، إذ أن
المسرح الحي هو الجذر الذي تولدت عنه بقية الفروع الأخرى.