[]
البيان بِلا لسان []
للدكتور : مهدي أسعد عرار
ط: دار الكتب العلمية ، 1428هـ
عدد صفحاته : 352
البيانُ بِلا لسانٍ صورة من صورِ التعبيرِ التي يقوم بها البشر فيما بينهم ،
و هي صورة لازمةٌ لهم لا تنفكُّ عنهم ، و لا يكاد يستغني عنها ناطقٌ فضلاً
عن غيرِ الناطقِ من البشر ، و بلغة الجسد قد يُوصِل الإنسان مُرادَه بقوةٍ
تزيد عن الإيصال باللسان .
و لغةُ الجسد من الأشياء التي اهتمَّ بها الناسُ ، و اشتغلوا في التصنيفِ
فيها ، و ضمِّها في مصنفاتهم ، و خاصة ما يتعلَّق بالمُعجميات ، لارتباطها
اللصيق بحياة الإنسان اليومية و تعاملاته مع بني جنسه .
الجسد كلُّه لُغةٌ صامتة ، و إدراك تلك اللغةِ يحتاج إلى فطنةٍ و مهارةٍ ، و
لا يُستغنى عن المنثور من أصول فقهها و درايتها .
كتاب " البيان بلا لسان " دراسةٌ للغة الجسد ، بذل الدكتور فيه جُهداً
كبيراً ، يَنُمُّ عملُه عن شيئين كبيرين :
أولهما : سَعةُ معارفِ المؤلف ، و ثقافته الشاملةِ الواسعة ، فقد حررَ
كتابَه مستعيناً بعلومٍ كثيرةٍ استقى منها جميعاً مادةَ " البيان بلا لسان "
.
ثانيهما : فَهم المؤلف لغةَ الجسد فهماً دقيقاً ، أبانَ عن ذا الفهمِ قوة
صنيعه في تصنيف الكتاب و ترتيبه ، و أبان عنه تلك الثروة المعلوماتية التي
حواها كتاب الرائع .
بُديءَ الكتابُ بتصدير للدكتور نِهاد موسى ، و هو كما ذكرَ عنه المؤلفُ
بأنه ممن تنطقُ لغةُ جسدِه كما ينطقُ جسدُ لغتِهِ ، قال د. نهاد موسى :
" يتجاوز الدكتور مهدي في كتابه هذا ما ينطقُ به الصوتُ ، إذ يفتح للبيانِ
أبواباً يستنطقُ بها الصمتُ ، و يتجاوزُ ما يُنبيءُ عنه اللسان مستقرياً ما
يُفصِحُ عنه : الوجه ، و العينان ، و اليدان ، و كلُّ بنانٍ ، و كلُّ ما
اختلجت به القدمان " .
و قال عن إبداع الدكتور مهدي في كتابه : " يُمثل إضافةً متفرِّدةً إلى هذا
الحقل ، و ذلك بما استجمعَ فيه من مقولات المُحْدَثِيْن ، و ما استقرأه من
أنظار الأوائل ، و ما نقَّبَ عنه من الوقائعِ في التراث و لدى الآخر " .
و لم يَدعِ الدكتور نهاد أن يُضفي وصفاً لما يجده القارىء من لذة و متعةٍ ،
فقال : " من يقرأ كتاب الدكتور مهدي تتنازعه متعتان :
متعة قراءةِ النصِّ بِأَلَقِ عبارتِهِ ، و لُطفِ تأتِّيْهِ في استجلاء
الفكرةِ ، و طرافةِ مُنطوياتِهِ من الأنظار و الوقائعِ .
و متعةٌ حادثةٌ من الإحساسِ بالكشفِ تُنازعه و تحرضه أن يخرُج من النصِّ
الأصغر " كتاب اللسان " إلى النصِّ الأكبرِ " كتاب الإنسان " يتقرَّى فيه
الوجوه ، و العيون ، و حركاتِ الأيدي ، و ضروبَ المشيء ، و يصبح عالَم
الشهادة كلُّه جميعاً نصاً مفتوحاً شائقاً " .
ليسَ أبلغَ من وصفِ المؤلفِ صنيعه في كتابه ، و ترتيبَه إياه ، أُوْجزُ
مكتوبَه بالمقصودِ ، و أُحيلُ القاريءَ إلى الكتابِ ليغرق في بحرٍ لا ساحلَ
له ، فيظفرَ بدرره .
جعل المؤلف كتابَه على أنظارٍ ثلاثة :
الأول : أنظارٌ مُمَهِّدَة (19_72).
تكلم فيه عن ذات البيانِ بلا لسان ، و وجوده في الناسِ ، و إسهاماتِ البيان
بلا لسانٍ في عملية التواصل بين الناس ، و عملية الإبانة عن المطالب و
الحاجات ، و لم ينسَ لُغة الإشارةِ ، و التمثيلِ الصامتِ ، و رسمِ المعنى
رسماً تمثيلياً .
كذلك تكلَّم عن لغة الجسد بين : الفطرة و الاكتساب ، و العموم و الخصوص ، و
التواصل و التفاصل .
الثاني : أنظارٌ مُؤصِّلة (73_163) .
و هو تأصيل لـ " لغة الجسد " ، و البحثِ عن ورودها في مأثورات القدماء ،
انتهى به بحثُهُ إلى أنَّ " القدماءَ جعلوا من " لغة الجسدِ " مُحتَكَمَاً
رئيساً في الإبانةِعن المعاني ، و شاهداً أميناً على المقاصِد الجَوَّانية ،
و أن المعنى قد يُستقى من الرافدَيْن : الصامت و الصائت .
أصَّل هذه الظاهرة من خمسةِ علومٍ أصيلة رصينة :
أولها : البلاغة ، و تلمَّسَها عند الجاحظِ .
ثانيها : اللفظيات اللغوية ( المعجميات ) ، و تلمَّسَها من كتابِ الثعالبي "
فقه اللغة " .
ثالثها : اللغة ، و تلمسها عند ابن جني في كتابِ " الخصائص " .
رابعها : الأصول الفقهية ، و تلمسها عند أبي حامد الغزالي في " المستصفى " .
خامسها : الفِراسة ، و تلمسها عن الرازي .
الثالث : أنظار مُستشرِفة (165_313) .
ففيه تلمَّسَ المؤلف ظاهرةَ " لغة الجسد " _ " البيان بلا لسان " في نصوص
العربية المتقدمة ، و بحثِ تجلياتها و دلالاتها و أغراضها ، فكانت محلّ
تباحُثاتِه :
أولاً : النصوص القرآنية .
ثانياً : النصوص النبوية .
ثالثاً : النصوص العِشْقية ، و اعتنى بأدب العشق و العشاق .
" فكانت كل مباحثة مشتملة على أمثلة جزئية تعقُبُها مقولات كُلِّية " .
هذا و قد ختم المؤلف كتابَه بمقولاتٍ ثمان :
الأولى : استذكارٌ ، للأنظار الثلاثةِ و مقاصدِ معاقدها .
الثانية : احتراسٌُ ، حيثُ أنَّ ما بثَّه ليس إلا شيءٌ قليلٌ من كثير ظاهرة
" لغة الجسد " .
الثالثة : تفسير ، فـ " لغة الجسد " في سياقها التواصلي تؤدي أغراضاً
متعددة : الدلالية ، النفسية ، البلاغية الجمالية ، التربوية ، التوضيحية
التمثيلية .
الرابعة : تقرير ، و هي " أن كثيراً من النظريات و الظواهر الدلالية التي
تصدق على جسد اللغة و الكلاميات تصدق على لغة الجسد و الصمتيات " .
الخامسة : استدراك ، على من قال بأنَّ لغة الجسد قديمة _ و هذا صحيح _ ، و
أنه ما تمَّ إلا حديثاً _ و هذا محل استدراك المؤلف _ ، فإن للغة الجسد
حضوراً في تراث القدماء ، و لعلماء العربية قصب السبق في ذلك .
السادسة : عالمية ، حيث لغة الجسد مُعمَّرة متقادمة ، و متداولة في المشارق
و المغارب ، فليست مخصوصاً بها شعبٌ دون غيره أو إقليم دون آخر .
السابعة : فاتحة ، فتكون خاتمة الكتاب فاتحة للباحثِ أن يبحثَ في استكمال
أنظار المؤلف ، فما صنعه المؤلف بداية ليس إلا ، و هي بداية موفقة قوية ، و
الفواتح التي رامها المؤلف :
1_ فاتحة لمعجم لُغوي ، يرصد ألفاظ الحركة الجسدية .
2_ فاتحة لمعجم لغوي لرصد ألفاظ لغة الجسد التي " فقه اللغة " للثعالبي .
3_ فاتحة لأبحاث أُخر ، كاستشراف اللغة الجسدية في القرآن أو النبويات .
4_ فاتحة لاستشراف اللغة في شعرِ شاعرٍ ، أو مجموعةٍ ، أو في مرحلةٍ ، أو
في غرضٍ شعري .
5_ فاتحة لأبحاث تطبيقية تجمع بين الدرس اللغوي الاجتماعي و النفسي ، و هذا
يقوم به المؤلف .
6_ فاتحة لتعلم ما تقوله أجساد الآخرين .
الثامنة : اقتباس ، لكلمتين راقيتين ، للجاحظ و للغزالي ، لأسباب :
1_ إعجابا بهم ، و هم يَلْحَبُون السبيل أمام دارسي المعنى بهدْيٍ من بعيدٍ
.
2_ إغراقاً في الإلحاح على مكانة هذه الظاهرة في درس المعنى .
3_ إنكاراً على الظانين بالظاهرة ظن السوء .
كلمة الجاحظ " البيان و التبيُّن " (2/7): " رُبَّ كنايةٍ تُرْبي على
إفصاحٍ ، و لحْظٍ يدُلُّ على ضميرٍ ، و إن كان الضميرُ بعيد الغاية " .
و كلمة الغزالي " المستصفى " (1/55) : " كلّ من طلبَ المعاني أولاً من
الألفاظ ضاع و هلَك ، و كان كَمَن استدبرَ المغرِبَ و هو يطلُبُه