عدداً من أفراد المجتمع، وعلى مختلف الشرائح فيه، يشكون من ضعفهم باللغة العربية وفي الحديث بها مع إتقان لقواعدها، فنجدهم يتساءلون دائماً: لماذا نجد اللغة العربية صعبة القواعد؟ ما الطريقة المثلى لتجاوز ذلك؟... وهنا أقول: ما من شك أن الكثيرين يشكون من صعوبة فهم قواعد اللغة العربية ومن النحو بشكل عام والإعراب بشكل خاص والمسائل الشاذة منه بشكل أكثر خصوصية، وذلك بسبب ضعفهم في اللغة. وأردّ هذا إلى أمرين: الأول- في عدم حفظ القواعد النظرية الضابطة للإعراب ولو حتى الرئيسة منها أو تلك التي لا تتغير مع تغير الحالات الإعرابية (القواعد الثابتة والمطلقة في الإعراب).
الثاني- عدم قدرتهم على تطبيق هذه القواعد النظرية - إذا حفظوها - على حالات عملية، كإعراب كلمة في آية قرآنية أو في بيت شعري أو في جملة...وأنا هنا أشبه الإعراب بالرياضيات والفيزياء والكيمياء، ففي هذه العلوم يقوم الدارس بوضع النظرية المناسبة لمسألة الهندسة ويحلها على أساس تلك النظرية، وكذلك في الفيزياء يتم الحل بوضع القانون المناسب ويتم الحل على أساس هذا القانون، وفي الكيمياء يضع المعادلة المناسبة ويحل على ضوئها، كل ذلك من خلال المعطيات الموجودة ضمن المسألة المطروحة، وكذلك في الإعراب، فيجب أن يستحضر المرء القاعدة النظرية في ذهنه ليطبقها على حالة عملية حسب المعطيات الموجودة في سياق الكلام، وهنا تلعب قوة الاستحضار والبديهة والذاكرة دورها في التوصل إلى الإعراب الصحيح والتمكن اللغوي.. ولكن، هل نجد جميع القواعد الإعرابية التي تضبط اللغة واحدة في جميع اللغات؟ ما الميزات التي تميز لغتنا العربية عن غيرها من اللغات؟ وهل تتفرد اللغة العربية بها أو تتميز؟. طبعاً لا توجد لغة دون ضوابط تضبطها وقواعد تنظمها، لكن هذه القواعد تختلف من لغة إلى لغة، فنجد ظاهرة المفرد والمثنى والجمع موجودة في اللغة العربية، بينما نجد أن المفرد والمثنى الذي يعد جمعاً أيضاً هي الموجودة في اللغة الانكليزية. كما أن هناك مزايا للغة العربية تختلف بها عن بقية اللغات، فنجد ظاهرة المترادفات، حيث نجد للشيء الواحد كلمات عدة.. ومن خلال ذلك نجد ظاهرة أخرى هي كثرة المفردات فنجد للاسم الواحد مفردات عدة فللسيف نجد اثنين وخمسين اسماً وللناقة خمسة وأربعين اسماً.. ما يضفي غنى في الكلمات وما يؤدي إلى وجود خيارات في الاستخدام ومساحة واسعة للتعبير فنجد أن عدد الألفاظ في اللغة العربية يزيد عن المليون كلمة بينما عدد الكلمات في اللغة الانكليزية بحدود أربعة وعشرين ألف كلمة فقط.. بالإضافة إلى ذلك فإننا نجد أن في اللغة العربية ظواهر الاشتقاق والتوليد والتفرد بأحرف غير موجودة في اللغات الأخرى كحرف (ض) الأمر الذي جعلها تسمى بـ (لغة الضاد) لتفردها بهذا الحرف عن بقية اللغات العالمية.. كما أننا نجد ظاهرة الميزان الصرفي الذي يتناسب مع وزن الكلمات فتحذف الحروف المقابلة من الوزن إذا كانت محذوفة من الكلمات، كما أن هذه الأوزان لا تُسقط إلا على الكلمات العربية الفصيحة أما الكلمات الأعجمية والعامية فلا وزن لها، لذلك لا نجدها في بطون المعاجم والقواميس التي لا تورد إلا الكلمات العربية الفصيحة.. بعد كل هذا يتساءل المرء: ألا نستطيع استبدال هذه القواعد وتغييرها؟ لماذا لا يتحدث كل واحد منا على هواه بحيث يوصل الفكرة إلى المتلقي أمامه؟.
إن القواعد متفق عليها منذ كانت ولا مجال فيها للتغيير أو التبديل أو التعديل، لأننا إن فعلنا ذلك نكون قد غيرنا من ضوابط اللغة التي وضعها أجدادنا علماء اللغة من جهة، ونكون قد نسفنا كل الكتب اللغوية التي ألفت والمخطوطات المحققة وغير المحققة التي تبحث في عمق اللغة وقضاياها ومسائلها، كما أننا نكون - إذا غيرنا القواعد - قد قضينا على تراثنا اللغوي، بالإضافة إلى كل ذلك - وهو الأهم نكون قد غيرنا معاني الآيات الكريمة الموجودة في سور القرآن الكريم لأنها كلها تعتمد على الإعراب الذي يؤدي إلى صحة المعنى، كما أن صحة المعنى تؤدي إلى الإعراب الصحيح.. فالإعراب والمعنى متكاملان، كل منهما يوصل إلى الآخر، فإذا قمنا بتغيير أحدهما فسد الثاني وتغير مدلوله ما يؤدي إلى إنكار ورفض كل ما جاء به الآباء والأجداد والسلف الصالح.. فكيف سأغير القواعد التي وضعها وثبتها ابن مالك النحوي في ألفيته في القرن السابع الهجري والتي كتبها بناء على ما أخذه ممن سبقوه من النحاة واللغويين بمئات السنين.. فاللغة مقدسة وقواعدها تأخذ قدسيتها منها، وكل هذه الدعوات بتغيير القواعد إنما هي ضد اللغة ودعوات لتفريق شمل الأمة إذا أدركنا أن اللغة هي الرابط الوحيد الذي يجمع شمل الأمة الآن من المحيط إلى الخليج.. إذاً ولكل ما ذكرت لا نستطيع تغيير هذه القواعد واستبدالها لأنها ضوابط للغة وللكلام العربي، كما أنها وسيلة تفاهم انطلاقاً من فهم المعنى من خلال قواعدها لكنني أقول إنني مع تسهيل قواعد اللغة وتبويبها وبخاصة للمتعلمين والدارسين لها، فإذا قمنا كمربين ومدرسين ومعلمين بتيسير تعليم قواعد اللغة ورتبنا حالاتها بشكل منطقي وجزأنا القواعد الصعبة وشفعناها بأمثلة مميزة - لأننا في كثير من الأحيان نتذكر المثال أكثر من القاعدة ثم نقيس عليه الحالة الإعرابية التي أمامنا - وأعطيناها بأسلوب شائق وجميل واستطعنا إيصال الفكرة الموجودة في أذهاننا إلى المتلقين بكل سهولة ويسر نكون بذلك قد خدمنا اللغة من خلال تعليمها لطالبي العلم، كما أن استحضار المعاني الجميلة والسهلة في اللغة والأبيات الشعرية التي تحاكي المشاعر وتعزف على أوتار القلوب .. كل ذلك يضفي المتعة إلى جانب الفائدة، بالإضافة إلى التحبيب باللغة وإظهار الغيرية عليها بأسلوب تربوي صحيح وتعليمها من خلال الإقناع، وعدم القسر والإكراه، وعدم الإيغال، والتقعر في استخدام الألفاظ الغريبة في كلماتها وألفاظها، كل ذلك يؤدي إلى محبة الناس للغة والإقبال على تعلمها، ثم تعليمها وتحبيبها لمتعلميها، لأننا - إذا فعلنا ذلك - نكون بعيدين عن مجتمعنا وبخاصة أننا إذا علمنا أن ألفاظ اللغة في تطور ومعانيها في تبدل وتغير، وهذا دليل على أن لغتنا حية تتأقلم مع الظروف المحيطة بها، كما أنها تتطور لتناسب العصر الذي نعيش، فبمجرد إجراء مقارنة بين تلك الألفاظ التي كانت مستخدمة في الماضي والألفاظ المستخدمة الآن، نجد أن هناك ألفاظاً تغير مدلولها وتبدل معناها، فلفظ «السيارة» في القرآن الكريم مختلف بمدلوله عن معناه في عصرنا الحاضر. وهنا أستطيع القول: إن الأنماط اللغوية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول هناك ألفاظ ميتة، وهي تلك الألفاظ المستخدمة في الماضي وغير مستخدمة في حياتنا الحاضرة، وإذا استخدمناها لم نفهم معناها مثل لفظ «شمردل»، وتعني الإنسان الطويل ذا المهابة، هذه اللفظة وأمثالها لا نجد معناها إلا في بطون المعاجم والقواميس ومثلها «السفود - الخمخم...».
الثاني: ألفاظ معزولة، وهي تلك الألفاظ المستخدمة في الماضي، وغير مستخدمة في عصرنا، لكننا إذا استخدمناها فهمنا معناها والمقصود منها، ومثل هذا نجد كلمة «الطوى» فيقول أحدنا: أنا جائع ولا يقول: «أنا طويان» ومثل هذه الألفاظ نجد «مطية» والتي تتضمن معنيين حقيقي ومجازي.
الثالث: ألفاظ تغير مدلولها ومعناها لتناسب الحياة التي نعيش فقد حملت معنى في الماضي مختلفاً عن المعنى المقصود في عصرنا الراهن مثل كلمات «الإضبارة - الكتيبة..» فالإضبارة كانت تطلق على الوعاء الجلدي الذي يضع فيه الفارس السهام والنبال ليرمي بها عن القوس وكان يضعها - الإضبارة - على ظهره.. أما الآن فقد تطور مدلولها لتدل على المصنف الذي يضم الأوراق الرسمية.
كل هذا يدل على أن لغتنا لغة حية وباقية تتأقلم مع كل ظرف توجد فيه وكل موقف تتعرض له.. ومع كل مجتمع لتتناسب مع حياة أفراده وما يريدون أن يعبروا عنه من معانٍ وأغراض.