أنخفضُ حين يسقط أطفال غزة، أنخفض داخل انخفاضي، أتكوّم على أطراف نفسي، أتداخل في بعضي، تهجرني تفاصيل مكاني، ينفيني جسدي؛ فلا أقدر على معرفة مكان أنفي أو ظهري أو سريري أو فنجان قهوتي، تنخفض غرفتي وطاقتي وكل الأمكنة والأشياء ولون الزهر ورائحة المريمية في الحديقة وأصوات الطيور، تنخفض ظهور الآباء الفلسطينيين وهم يصحبون أطفالهم الأحياء صباحاً إلى الروضات، يندسون مسرعين في دفء سياراتهم، يهربون إلى بيوتهم وسحابة من الاعتذار تجلل وجوههم في مرايا سياراتهم، تسحل الكتب عن الرفوف، أنزوي في قعر شعور عارم بأنقاض الأشياء، في منتصف الليل، مركز البرد، أسمع صوتك الوسيم، قي قرص مدمج جديد أعده مؤخراً الجميل سمير جبران، مزيج شهي أنيق من قصائدك في أمسيات متنوعة وقصائد مختلفة مع مزيج دافق من ألحان متنوعة في أمسيات متباعدة للأشقاء الثلاثة المبدعين، أتلظى وحدي في أتون موتنا الكثير.
حين تحكي لنا عن الحب؛ نرى وطننا، وحين تحكي عن الوطن، نشم رائحة حبيباتنا، مرايا تحدق في وجهها في مرايا مشغولة في تأمل مراياها، تدهشني حدودك المدمرة بين الوطن والوجود والمحبوبة حد الضياع والسؤال والغيبوبة، فأستنجد بارتفاعك؛ لأعثر على شكلي وحقيقتي وتناسق فوضاي المفقودة، لأتعلم كيف أسأل، وأشتم صحوي، وأمارس سماء العجز عن الإجابة، لأسمع صوت أطفال شعبي المذبوحين، آتيك وحدي بهدوء اللصوص الخجلين المثقفين يا محمود؛ لأسرق قبضة من ريح تلتِك، أُنضج بها خبز ناري، في المساءات الباردة الماطرة، آتيك هذه الأيام، متلفعاً بانخفاضاتي وانخفاضات البلاد، أخلعها عن جسدي وروحي، أكوّمها قرب وجهك، أقف عارياً وعالياً؛ أنتظر أن تنهض ركامات الغرف وتستوي أنقاض الأسرة والأرائك والفنادق والمتنزهات، والكتب والمشاعر وألوان الزهور وروائح النباتات، والطيور وظهور الآباء. قريباً جداً من يديك، أجد شبح صديقي الخمسيني، الذي يأتيك سراً، هو الآخر، يتسلل إليك من بين شقوق الريح وكوى الضباب والأعين، ليقول لك ثلاث كلمات فقط: "صارت لي ابنة"، ثم يهبط درج تلتِك مسرعاً. ما بال الكل يهرع إليك أيها العالي مثل صوت بحر في هذه الأيام المنخفضة؟.
آتيك أنا في عزّ الموت؛ لأقول لك: صاروا 500 يا محمود، قصفوا مدرسة الفاخورة، هدموا بيت الشاعر عثمان حسين، ثم أعود فوراً دون كلام آخر. أسمع (عابرون في كلام عابر) (وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة)، (وأنتظرها)، في كل مكان، في البيوت ومقاهي النت، والمؤسسات، والمدارس، والمقاهي، شعبك يبحث عنك، يشتاق إليك، ينتظرك، أتساءل ... يتساءلون، ولا أسأم ... نسأم من التساؤل عن سرّ رشاقتك اللغوية والوجودية والسحرية في التنقل الفني ما بين الملاحم العظمى الثلاث: (الوطن، الوجود، الجسد)، كأنك اعتقلت الدنيا بين دفتي عينيك، واختصرت بهاءها وألمها في عدة كلمات: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، في هذه الجملة تعشش امرأة ووطن وسؤال الوجود، الوجود يقول على يديك للمرأة: أنا وطنك، يقول الوطن للوجود: أنا امرأتك، تقول المرأة للوطن: أنا وجودك.
ألهذا أجيء إليك، بغزارة هذه الأيام؟ لأبحث عن امرأتي ووجودي ووطني؟ أم لأسباب أخرى كالبحث عن أمان ما، حكمة، حل، زهو أفتقده، تحقق وجود، دفء، صوت يحتجز الشمس في نبرته، فيما يشبه اجتياح الغيوم لصيف آمن، سيفاجأ مؤقتاً لكنه لن يندم، فيما بعد، أطياف قصائد كان يمكن أن تكتب الآن، عبارة مفاجئة ساخرة مدهشة تبتكرها بمرحك المعذب أثناء مرورك في مدخل (فاتشي)؛ لتعبّر عن مأساة نرجس غزة؟. في يوم آخر أجد حولك صديقي السبعيني، فدائي قديم، ينحني ويتلوّى وجعاً من آلام الحزام الناري الذي يشوي بطنه، ومع ذلك جاء إليك، يبحث في طاقة التلة عن تأويل شعري وإنساني، ووجودي جديد منك لمجزرة أطفالنا الجديدة، ولحزام نار فلسطين، أيضاً، تأويل يشبه وسادة محشوة بالسحاب على تعبيرك أنت، تأويل يفيض عن ارتفاعك، ليسكت نار بطنه وأنياب أسئلته الكبرى: كيف تذهب بطولات الناس سدى؟ من أين الطريق إلى حريتنا ونحن محاصرون بالفتاوى والاحتلال؟ كم من العمر بقي لأشهد انفجار الضوء، بعد طول أنفاق؟ أأذى عابر ما حدث لأطفال غزة؟ يبكي الفدائي / الطفل، وهو يغادرك مغمغماً لنفسه: هل أحسدك يا محمود؛ لأنك لا تعرف ما الذي يجري للحمنا العفوي المبتدئ الآن هناك؟. يوم آخر، صديقي العشريني يصطحب صديقته التي تعشقك، يقفان ذاهلين أمام قدرتك الفذة على: الانتشار في تلاميذنا ونبيذنا وجدراننا وزنازيننا وشرفاتنا وتلالِنا وقهوتنا وأغانينا ودموعنا وخبزنا وحدائقنا وشهدائنا، بالحرارة والعذرية والقوة والتدفق والحيوية نفسها التي ينتشر فيها الله في حزن العالم؟. يا أمير تلالي وتلالنا، هذا انخفاضي وانخفاض فلسطين، فابتسم لنا نصاً جديداً ليسيل علونا عارماً في منحنيات المجزرة على شكل أمل وحب وطفل.