لم يثر مثله أحد حيرة المؤرخين, بعضهم اعتبره رجلاً طموحا خاض في بحور من
دماء معارضيه من أجل السلطة بينما رآه آخرون نابغة حازماً حمى الإسلام
بالأندلس وزاد عن حياضه كما لم يفعل أحد من قبله ولا من بعده .
ولكن أحدا منهم لم يختلف على أنه كان رجل دولة تميز دوماً بالذكاء متنزهاً
عن ما كان سائداً من نقائص بين نخبة الحكم في آخريات عهد الخلافة الأموية
بالأندلس.
إنه ثعلب الأندلس أبي عامر محمد بن أبي عامر والذي اشتهر بلقبه الحاجب
المنصور .
ولد محمد لأسرة كريمة المحتد من قبيلة معافر اليمنية، إذ شارك جده السابع
عبد الملك بن أبي عامر في جيش الفتح الذي اقتحم به طارق بن زياد أسبانيا .
وتذكر الروايات التاريخية أن الفتى الذي كان أبوه عبد الله فقيهاً مبرزاً
شديد الورع كان يتوق إلى أن يصبح صاحب الحول والطول في دولة الخلافة
بالأندلس حتى أنه فاجأ ذات يوم بعض رفقة صباه وسألهم « ماذا ترون أن صارت
مقاليد أمور هذا البلد في يدي يوماً ما « وعندما ضحك رفاقه تابع كلامه في
هدوء قائلاً « ليختر كل منكم خطة أوليه إياها إذا أفضى إليَّ الأمر».
وبالفعل طلب أحد رفاقه أن يوليه حسبة السوق في قرطبة وتمنى الثاني أن يكون
واليا على كورة في مالقة ورغب الثالث في أن يكون واليا على قرطبة ، لكن
رابعهم لاذ بالصمت سخطاً على انسياق الرفاق وراء كلام ابن أبي عامر المرسل
فلما ألح عليه أن يقول أمنيته هب واقفاً وأمسك بلحيته وقال « إذا قضي إليك
الأمر فمر أن يطاف بي قرطبة كلها على حمار ووجهي لذنبه وأنا مطلي بالعسل
ليجتمع على الذباب والنحل «.
ولم يخيب الفتى العامري ظن أحد من رفاقه عندما صار الرجل الأقوى بالأندلس
فنال كل منهم أمنيته عدا الأخير الذي اكتفى المنصور بتجريده فقط من
ممتلكاته .
بدأ محمد العامري حياته المهنية بوظيفة صغيرة بمحكمة قرطبة ثم أصبح وكيلاً
لأعمال ابن الخليفة الحكم المستنصر وهو عبد الرحمن الابن البكر المترشح
لولاية العهد ونال بإخلاصه ونباهته إعجاب الخليفة وأيضاً زوجته وجاريته أم
ولده « صج» وهي بشكنسية المولد ، وحرص على أن يقدم لها هدية ثمينة من وقت
لأخر حتى أصبح مديراً للشؤون المالية للقصر الخلافي في الزهراء بعد سبعة
أشهر فقط من إشرافه على أملاك عبد الرحمن.
وشاءت الأقدار أن يحضر ابن أبي عامر الأحداث الخطيرة التي أحاطت بتوريث
العرش بعد وفاة المستنصر عندما أراد الصقلبيان فائق وجوذر إبعاد ولي العهد
الطفل هشام المؤيد وتولية عمه الشاب المغيرة ، وواجه الوزير المصحفي هذه
المؤامرة بقرار خطير ألا وهو قتل المغيرة لقطع الطريق على سعي الصقلين
للسيطرة على العرش الأموي، واستقرت المهمة الصعبة على ابن أبي عامر، ولكنه
وجد المغيرة مرحباً بتولى هشام فراجع المصحفي في أمر قتله ولكن الوزير أصر
على تنفيذ القرار فغادر العامري القصر بعد أن أمر الجنود بشنق المغيرة .
ويظهر أن محمد بن أبي عامر لم ينس للوزير جعفر المصحفي إكراهه على قتل
الأمير الأموي فظل يكيد له حتى عزله من الوزارة وأذاقه مرارة الذل والهوان
والفقر .
وبفضل ذكائه وطلاوة لسانه وكرمه أيضاً نجح ابن ابي عامر في استقطاب وجوه
الدولة كما نال رضا الرعية منذ تولى أمر الأمن في قرطبة فضرب بشدة على أيدي
اللصوص والقتلة حتى ندرت الجرائم بالعاصمة وأمن سكانها على أنفسهم
وأموالهم حتى أن ابنه قام بمخالفة بسيطة فصمم على أن يجلده بنفسه مما أدى
إلى وفاته في وقت لاحق متأثراً بإصاباته .
وانتهج العامري سياسة ثابتة لعزل الخليفة الطفل داخل البلاط وتولى هو بنفسه
كل أمور الدولة وتسمى بالحاجب المنصور وأصبح الخليفة أشبه بالسجين بل إن
المنصور قام بنقل خزائن الأموال ودواوين الحكم إلى ضاحية الزاهرة التي قام
بتأسيسها على مقربة من قرطبة .
ومنذ ذاك أخذ المنصور في التعبير عن نفسه كرجل دولة يندر أن نجد له مثيلاً
في تاريخ العصور الوسطى .
وأول ما قام به إدخال تغييرات عميقة على بنية الجيش الأندلسي ، فألغى ما
كان سائداً فيه من اعتماد القبيلة كرابطة تؤمن لفرق الجند التماسك وحمية
القتال وكان الغرض من ذلك ضرب العصبيات العربية التي أزعجت العرش الأموي
وتدعيم الصبغة القومية الأندلسية، ومن ثم أصبحت فرق الجند تضم العرب من
القيسية واليمنية بالإضافة إلى البربر الذين استقدمهم من المغرب واستعمالهم
بعطاياه لما عرف منهم من الشجاعة والجرأة في الحروب.
وزاد على ذلك ضم المستعربين من نصارى الأسبان إلى فرق الجيش ليعطي لحروبه
ضد ممالك النصارى بعداً قوميا واضحاً خلافا لطابع الحرب الدينية التي
أرادها ملوك قشتالة وليون ونافاروهم يشنون الغارات على أطراف الحدود
الأندلسية والتي وصلت في بعض الأحيان إلى حد تهديد قرطبة ومحاصرتها.
وبعد أن أعاد تنظيم الجيش شرع في التحول من حاجب وأديب وفقيه إلى قائد
عسكري يقود الجيش بنفسه في الغزوات وأظهر من ضروب الشجاعة والصرامة ما أجبر
الجند على اختلاف مشاربهم من عرب وبربر ونصارى على إظهار الاحترام
والإكبار لشخصه.
ومما يروى عنه أنه لمح سيفا يلمع نصله تحت أشعة الشمس وهو يستعرض فرق الجند
فاستدعى العسكري وسأله عن سبب إشهاره للسلاح في وقت لا يحق له أن يفعل ذلك
فيه ولم يقبل منه أي حجة ساقها بل أمر بقطع رقبته على الفور .
كانت هذه التغيرات العسكرية ضرورية لتنفيذ خطته في إرغام ممالك النصارى على
التزام الدفاع عن أراضيهم عوضاً عن الهجمات والإغارات على المدن الأندلسية
. وقد شن المنصور بنفسه أكثر من خمسين حملة على ليون وقشتالة وقطالونية
ونافار والبرتغال لم يخسر واحدة منها وأب منها جميعاً مكللاً بالنصر حاملاً
معه الأسلاب والأسرى إلى قرطبة .
لم يدخل المنصور مدينة في أراضي الأعداء إلا وأعمل فيها القتل والتدمير حتى
ليقال إنه أشغل ممالك النصاري لقرابة الستين عاماً بعد وفاته من أجل تعمير
مدنهم وإعادة الحياة إلى القرى والمزارع .
فعندما دخل برشلونة في 15 صفر سنة 375 هـ حكم السيف في رقاب الكثيرين من
جندها وأهلها وأسر من بقي حياً وخرب البلد وأضرم فيه النيران.
وعندما سولت لبرميد وحاكم ليون نفسه التمرد على قرطبة هاجم المنصور ليون
رأساً واقتحم أسوارها المنيعة ولم يدع فيها حجراً على حجر وأطلق لجنوده
العنان في تخريب الأبواب والأبراج فلم يبقوا إلا على برج واحد قائم بجانب
الباب الشمالي يكاد ارتفاعه يساوي ارتفاع الأبراج التي دمرت، إذ أمر
المنصور بتركه كما هو رامياً من وراء ذلك أن يكون شاهداً للأجيال القادمة
على بأس البلد الذي محاه من على سطح الأرض .
وزاد المنصور على ذلك بهجومه المظفر على شنت ياقب المدينة المقدسة في
فاليسيا والتي لا يسبقها قداسه في نظر نصارى أوروبا سوى روما فقد دمرها عن
أخرها ولم يبق فيها سوى على قبر القديس يعقوب ، وحمل معه أبواب كنيسة شانت
ياقب وكذا أجراسها إلى قرطبة على ظهور الأسرى حيث وضعت الأبواب في جامع
قرطبة أو بالأدق في التوسعة التي كان يقوم بها في هذا الجامع أما الأجراس
فقد علقت في الأسقف كثريات.
ولقد أتت غزوات المنصور أكلها حتى صارت قلوب نصارى أسبانيا ترجف من ذكر
اسمه حتى أنه في مرة من مرات العودة من إحدى الحملات نسي حامل الراية رايته
وتركها مركوزة على قمة جبل مشرف على أحدى المدن المسيحية فظلت الراية
مكانها أياماً لم يجرؤ النصارى على التقدم نحوها ليروا هل رحل المنصور
وجيشه أم مازالوا مقيمين .
ومما يؤثر عنه أنه في كل غزواته كان يستصحب معه مصحفاً خطه بيمينه ليقرأ
فيه فضلاً عن كفنه الذي خاطته بناته من إيراد الضبعة التي ورثها عن أجداده
في حصن طرش ولم يدخل فيه درهما من راتبه تنزيها له عن أي شبهة فضلا عن
مناديل كان يملأها دوما بما علق بأثيابه من غبار المعارك ، ودفنت هذه
المناديل معه في قبره لتكون شفيعة له بجهاده ضد أعداء الأندلس .
وإذا أحد أساقفة النصاري قد سجل في حولياته وفاة المنصور بقوله وفي هذا
العام مات المنصور وذهب إلى الشيطان فإن المؤرخين الأسبان المعاصرين قد
كانوا أكثر إنصافاً له واحتراما لقدره فيقول أحدهم إذا وجب أن نستنكر
الوسائل التي لجأ إليها المنصور في اغتصاب السلطة فمن الواجب أيضاً أن
نعترف بأنه استخدمها بطريقة شريفة وما كنا لنسرف في لومه لو أن القدر خلقه
على أريكة العرش ولعله كان يعتبر عندئذ من أعظلم الملوك الذين عرفهم
التاريخ».