بعدما تحدثت المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة عن معجزة العرب الحضارية في
كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) تساءلت عن المقومات التي احتاجها العرب
ليبعثوا مثل هذا البعث ، كما تساءلت عن العوامل التاريخية والاجتماعية
والروحية والفكرية التي كان لا بد لها أن تجتمع لتخلق هذه المعجزة التي
حققها العرب.
وأقول جواباً عن تساؤلات المستشرقة الألمانية :
إن الإسلام وحده هو الذي كان وراء هذه البعث العربي والإعجاز الحضاري الذي
حققه العرب ، فلقد كان العرب في حاجة إلى عقيدة إلهية واحدة تكون مصدر
التجمع والتصور ، ومنبع الفكر ومنهج الحياة .. مؤثرة في المبادئ والشرائع
والأنظمة والأوضاع التي تنظم المجتمع أفراداً أو جماعات مع نظام مؤثر في
الأخلاق والآداب والتقاليد والعادات والقيم والموازين التي تسود المجتمع
وتؤلف ملامحه مع سيادة القيم الإنسانية واستملاء الإنسان في العقيدة
الإسلامية والنظام الاجتماعي الإسلامي.
أولاً : العقيدة :
تقوم العقيدة في الإسلام على تنظيم صلة الإنسان بالله وتعطيه قيماً معينة
وشريعة تنظم الحياة الاجتماعية حسب هداية الله سبحانه وتعالى أن ترتكز هذه
العقيدة على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وهي تعني
الإفراد بالعبودية لله وحده دون سواه والاعتراف بالخلق والسلطان له سبحانه
وتعالى وتنزيهه عن الشريك. ويتمثل ذلك في التصور والإدراك البشري من تلقي
الإنسان لحقائق العقيدة من مصدرها الرباني الذي يتكيف به الإنسان في إدراكه
لحقيقة ربه ولجلاله ولحقيقة الكون الذي يعيش فيه ، ولحقيقة الحياة التي
يعيشها ، ولحقيقة الإنسان نفسه ، ومن ثم تصبح عقيدة (أن لا إله إلا الله
وأن محمداً رسول الله) قاعدة لمنهج كامل تقوم عليه حياة الأمة المسلمة
بحذافيرها ، فأركان الإسلام من مقتضياتها ، صلاة ، وزكاة ، وصيام ، وحج ،
وحدود ، وتعازير ، وحلال وحرام ، وسلوك وأخلاق ، والاعتراف بالعقيدة لله
رب العالمين يقتضي الطاعة لله وحده والتسليم لحكمه دون سواه : (قُلْ إِنَّ
صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
{162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ {163}.
هذه العقيدة القائمة على التوحيد لها معطيات كانت وراء ما حققته الحضارة
الإسلامية من سمو وإعجاز أدهش العالم وأثار تساؤلات علمائه عن هذه المعطيات
ومن هذه المعطيات.
1- السمو الإنساني :
إذ أعطت هذه العقيدة لحامليها ومعتنقيها الطهارة في أسمى معانيها وأجمل
صورها، الطهارة من الشهوات ، فلا تستخذله شهوة ، ولا تطوعه غريزة شر ، بل
تعطيه عقيدته قوة يستعصي بها على أي هوى أو نزوة ، فلا يضعف ، ولا يستكين
لعواصف الشهوات ، وإغراءات العادة ، وقد يضعف أمام ذلك الكثير ، رغم ما
أوتوا من علم وما بلغوا من حضارة (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ
اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {23}.
وتعطيه كذلك كرامة يجالد بها عبودية الانسان للإنسان وتسلط الطواغيت على
حياته ودنياه فلا يتخذ رباً إلا الله (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ
إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا
بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ
اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {64}.
كما تعطيه سمواً في التفكير فلا يكون أسيراً لرواسب ماضية ونحل متحرفة ،
وقد كان هذا دأب الجاهلين قبل (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا
أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ
{170}.
2- النمو الحقيقي للأشياء :
أن تبعث العقيدة الإسلامية في نفوس أصحابها التصور الحقيقي لقيم الأشياء
فلا ينطلي عليها غبش الدعايات وبهرج الشبهات ، فمن يعرف ربه يعرف شيمة نفسه
ويعرف قيمة إيمانه ويعلم تسخير العوالم له ، ويعلم كذلك أن الناس كلهم
عبيد لله وكلهم من خيره يرزقون ، فلا تزلف لأحد إذاً ، لأن الكل مخلوق ،
والكل محتاج إلى عطف الله ورضاه ، وإذا استعان صاحب العقيدة فإنما يستعين
بالله ، وإذا طلب فليطلب من الله.
ويعلم كذلك أن الضر والنفع من الله ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في
تعليم ذلك لابن عباس : (إذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو
اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لا ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).
3- الرجاء وطمأنينة القلب :
أن تبعث هذه العقيدة في نفوس أصحابها الرجاء في الله وطمأنينة القلب؛ إذ
يربي الإيمان القلب على نفسية قائمة على الثقة بالله والرجاء فيه ، فهو في
كل حال يتغلب على اليأس والقنوط والجلد والثقة حتى يأتيه نصر الله وهو مطلع
عليه : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ
بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ {186}.
4- الجراءة والشجاعة في مواجهة الشدائد :
فهذه العقيدة تعطي صاحبها صفات نفسية عامرة كريمة بغير حدود من هذه الصفات
الجراءة والشجاعة والبسالة النادرة ، الشجاعة في كل ميدان من ميادين الحياة
، الشجاعة في مواجهة النفس والتغلب على ثقل الحيوانية ، ولهذا ترى كثيرين
من أصحاب العقائد ضربوا أروع الأمثلة في الاستقامة والقدوة بعد تاريخ طويل
في الجهالة وحب العرض وأتباع الشهوات ، واستطاعوا أن يفرضوا الاستقامة وأن
يعلموا الشعوب الهداية والرجولة ونبذ الانحراف ومداواة النفوس (الْمَالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ
خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً {46}.
5- الإحاطة والشمول :
مما تتميز به العقيدة الإسلامية الإحاطة والشمول حيث تعترف بالكتب السماوية
كلها ، حيث يأمر الإسلام الإيمان بكل كتاب أنزله الله على أحد من رسله
(والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن
قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن
رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {5}.
ومن مظاهر الإحاطة والشمول : الدعوة العامة لجميع البشر وعدم التمييز بين
جنس وجنس ، ولون ولون ، وفقير وغني ، بل الكل أمام الله سواء ، والدين
لهؤلاء جميعاً. والرسول صلى الله عليه وسلم بعض الناس جميعاً (وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {28}.
ومن إحاطة الإسلام وشموله : بيانه لجوانب الحياة صغيرها وكبيرها ، ما صلح
منها وما فسد من طعام وشراب فأحل الطيب وحرم الخبيث (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا
أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ).
وقد بين الإسلام أن الأعمال هي قوام المسلم وهي ميزان بها يصعد وبها يهوي ،
وبها يسود في الأرض ، وبها يضيع من قدمه الطريق (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً {124}.
ثانياً : النظام الاجتماعي
الأساس الثاني للحضارة الإسلامية هو النظام الاجتماعي المتكامل الذي جاء به
الإسلام ، وصبغ به الحياة الإسلامية ، وهو نظام رباني اختاره الله للبشرية
لينظموا حياتهم عليه ، ويحييهم به حياة طيبة ، ويسعدهم به في الدنيا
والآخرة ، ولا تتداخل معه أهواء البشر الشاردة أو أنظارهم القاصرة وإنما هو
وعي إلهي رائق ينظم حياة الناس وينسقها ، كما ينظم حركة العوالم ويهذبها
ويسعد حياة البشر ويهنيها، ومن أهم أسس النظام.
1- المساواة بين البشر :
يقيم الإسلام المجتمعات الإسلامية على قاعدة مهمة مستقيمة هي المساواة
التامة بين البشر ، ويقرر المساواة على إطلاقها فلا قيود ولا استثناء ،
وإنما مساواة تامة بين الأفراد ومساواة تامة بين الجماعات ، ومساواة تامة
بين الأجناس ، ومساواة كاملة بين الحاكمين والمحكومين لا فضل لرجل على رجل
ولا لأبيض على أسود ، ولا لعربي على أعجمي ، وذلك لقوله تعالى : (يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
فهذه قومية عالمية ووحدة إنسانية متكاملة تكون جماعة دولية ، تحمي فيها
الامتيازات القائمة على الاختلاف في الألوان والأجناس واللغات والحدود
الجغرافية، ومن المحال أن تكون حضارة إنسانية عالمية إلا بتحقيق ذلك لأنها
من جانب تحافظ على فردية الفرد ، ومن جانب آخر تطهرها من كل ما قد يكون
فيها من الميول المتناقضة ، والنظام الإسلامي بهذا يقطع الطريق على النظام
الطبقي وما يصاحبه من نظام اجتماعي ، وقد أحدثت ، هذه المبادئ ثورة
اجتماعية هائلة بدلت الأوضاع الاجتماعية فالكل أمام الله سواء ، ومن هذا
المنطلق سار الناس بطاقاتهم إلى المجد لا يعترضهم جهل أو غرور أو تسلط ،
ويسعى الكل يعليه عمله ويرفعه جهده أو يوبقه كسله ويقصره ضرره ، ولهذا نرى
أن المجتمع الإسلامي برزت فيه طاقات جبارة ولولاه بعد الله ، ما كان لها في
الحياة شأن أو ذكر.