بعد صلح
الحديبية انضمت قبيلة بكر لقريش ، وانضمت قبيلة خزاعة لحلف المسلمين .
وكان بين
بني بكرٍ وقبيلة خزاعة ثارات في الجاهلية ودماء ، وذات يومٍ تعرضت
قبيلة خزاعة لعدوانٍ من قبيلة بكر الموالية لقريش ، وقتلوا منهم نحو
عشرين رجلاً . ودخلت خزاعة الحرم للنجاة بنفسها ، ولكن بني بكرٍ
لاحقوهم وقتلوا منهم في الحرم . فجاء عمرو بن سالم الخزاعي الرسول صلى
الله عليه وسلم يخبرهم بعدوان قبيلة بكرٍ عليهم ، وأنشد الرسول صلى
الله عليه وسلم شعراً :
يا رب إني نـاشد محمداً حلف أبـينا وأبيه
الأتلدا
إنه قريشٌ أخلفوك المـوعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
فانصر رسول الله نصراً أعتدا وادع عباد الله يأتوا
مدداً
فقال له
رسول الله عليه وسلم : " نصرت يا عمرو بن سالم ، والله لأمنعنكم مما
أمنع نفسي منه " . ودعا الله قائلاً " اللهم خذ العيون والأخبار عن
قريش حتى نبغتها في بلادها ".
وندمت قريش
على مساعدتها لبني بكرٍ ، ونقضها للعهد ، فأرسلت أبا سفيانٍ إلى
المدينة ليصلح ما فسد من العهد ، ولكنه عاد خائباً إلى مكة .
وأخذ رسول
الله عليه وسلم يجهز الجيش للخروج إلى مكة . فحضرت جموعٌ كبيرة من
القبائل .
ولكن حدث
شيءٌ لم يكن متوقعاً من صحابي . وهو أن الصحابي حاطب بن أبي بلتعة كتب
كتاباً بعث به إلى قريشٍ مع امرأة ، يخبرهم بما عزم عليه رسول الله
عليه وسلم ، وأمرها أن تخفي الخطاب في ضفائر شعرها حتى لا يراها أحدٌ .
فإذا الوحي ينزل على رسول الله عليه وسلم بما صنع حاطب ، فبعث الرسول
صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ليلحقا بالمرأة
. وتم القبض عليها قبل أن تبلغ مكة ، وعثرا على الرسالة في ضفائر شعرها
.
فلما عاتب
النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً اعتذر أنه لم يفعل ذلك ارتداداً عن
دينه ، ولكنه خاف إن فشل رسول الله عليه وسلم على أهله والذين يعيشون
في مكة .
فقال عمر :
" يا رسول الله ، دعني أضرب عنق هذا المنافق " . فقال رسول الله عليه
وسلم:
" إنه قد
شهد بدراً ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدراً فقال اعملوا
ما شئتم فقد غفرت لكم " .
وكان حاطب
ممن حارب مع رسول الله عليه وسلم في غزوة بدر . فعفا عنه ، وتحرك جيش
المسلمين بقيادة رسول الله عليه وسلم إلى مكة في منتصف رمضان من السنة
الثامنة للهجرة . وبلغ عددهم نحو عشرة آلاف مقاتل . ووصلوا " مر
الظهران " قريباً من مكة ، فنصبوا خيامهم ، وأشعلوا عشرة آلاف شعلة نار
. فأضاء الوادي .
وهناك
تقابل العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان . فأخذه العباس إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم . فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : " ويحك يا
أبا سفيانٍ أما آن لك
أن تعلم أن
لا إله إلا الله ؟ " .
فقال
العباس : " والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئاً
بعد " .
قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : " ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟
"
فقال : "
أما هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً " .
وبعد حوارٍ
طويلٍ دخل أبو سفيانٍ في الإسلام . وقال العباس : " إن أبا سفيانٍ يحب
الفخر فاجعل له شيئاً . فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " من دخل دار
أبي سفيانٍ فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن " .
وأراد
الرسول صلى الله عليه وسلم أن يري أبا سفيانٍ قوة المسلمين ، فحبسه عند
مضيق الجبل . ومرت القبائل على راياتها ، ثم مر رسول الله صلى عليه
وسلم في كتيبته الخضراء. فقال أبو سفيان : ما لأحدٍ بهؤلاء من قبل ولا
طاقة .
ثم رجع أبو
سفيانٍ مسرعاً إلى مكة ، ونادى بأعلى صوته : " يا معشر قريش ، هذا
محمدٌ قد جاءكم فيما لا قبل لكم به . فمن دخل داري فهو آمن ، ومن أغلق
عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ". فهرع الناس إلى دورهم
وإلى المسجد . وأغلقوا الأبواب عليهم وهم ينظرون من شقوقها وثقوبها إلى
جيش المسلمين ، وقد دخل مرفوع الجباه . ودخل جيش المسلمين مكة في صباح
يوم الجمعة الموافق عشرين من رمضان من السنة الثامنة للهجرة .
ودخل رسول
الله صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها وهو يقرأ قوله تعالى : (( إنا
فتحنا لك فتحاً مبيناً ))
واستسلمت
مكة ، وأخذ المسلمون يهتفون في جنبات مكة وأصواتهم تشق عناء السماء :
الله أكبر .. الله أكبر .
وتوجه رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرم ، وطاف بالكعبة ، وأمر بتحطيم
الأصنام المصفوفة حولها . وكان يشير إليها وهو يقول : (( و قل جاء الحق
و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ))
وبعد أن
طهرت الكعبة من الأصنام أمر النبي عليه الصلاة والسلام بلالاً أن يؤذن
فوقها .
ثم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر قريش ، ما ترون أني فاعل بكم
؟ " قالوا : " خيراً . أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريم " . فقال عليه الصلاة
والسلام : " اذهبوا فأنتم الطلقاء".
فما أجمل
العفو عند المقدرة ، وما أحلى التسامح والبعد عن الانتقام . ولننظر ما
فعل الغالبون بالمغلوبين في الحربين العالميتين في قرننا هذا ، قرن
الحضارة كما يقولون ، لنعلم الفرق ما بين الإسلام والكفر .
وهكذا
ارتفعت راية الإسلام في مكة وما حولها ، وراح الناس ينعمون بتوحيد الله
.