تـُعتبر قصيدة: "إلى أمي" من أشهر قصائد الشاعر الكبير، الراحل: محمود
درويش، لموضوعها ويُسر تلقيها. وقد زاد من شهرتها وذيوعها بين الجماهير
العربية العريضة ،الأداء المميّز الجميل للقصيدة من قبل الفنان اللبناني
الكبير مارسيل خليفة.
قصيدة "إلى أمي"، رغم (أو بسبب!) بساطتها، وسهولة ألفاظها، وسلاسة لغتها
القريبة من القارئ والمستمع، تحمل بعدا دلاليا وإنسانيا عميقا.
وأعتقد أن محمود درويش، استطاع ، في هذه القصيدة (وهي من إبداعاته الأولى،
فقد ظهرت في ديوان: "عاشق من فلسطين" الذي صدر سنة 1966، في شباب الشاعر)،
أن يحقق المعادلة الصعبة المستعصية على العديد من الشعراء، المعادلة
المتمثلة في اقتران البساطة بالعمق، واندغام السهولة في الفنية العالية،
وتَحقق الاستجابة لذوق القارئ العادي والمتلقي من النخبة المثقفة. ولا
يستطيع ذلك إلا مبدع موهوب.
فمعجم القصيدة ملتقــََط من جزئيات الحياة اليومية الحميمة: خبز الأم ـ
قهوتها ـ صدرها ـ الطفولة ـ خصلة الشعر ـ ذيل الثوب ـ التنور ـ حبل الغسيل
ـ سطح الدار ــ صغار العصافير.... لكن هذا المعجم المعبر عن تفاصيل
الحياة، توازيه وتدعمه ألفاظ وتعابير مُشعّة، لاتعوق الفهم، بل تزيد الشعر
إشراقا وسطوعا، دون إغراق في التصوير الغامض: تكبر فيّ الطفولة ـ أعشق
عمري ـ أخجل من دمع أمي ـ خـُذيني وشاحا لهُدبك ـ عشب تعمّد ـ طـُهر الكعب
ـ أصير إلها ـ قرارة
القلب ـ فقدت الوقوف ـ نجوم الطفولة ....
جمال القصيدة إذن، ينبع من هذا المزج المبدِع بين البسيط والدالّ
العميق،في نفس الآن، ومن هذه الخلطة الفنية العجيبة التي تهز كيان
المتلقي، وتؤثر فيه إلى أبعد الحدود. إضافة إلى أن الموضوعة نفسها، موضوعة
"الأم"، رغم ذيوعها وتداولها، تثير في نفس القارئ ، مزيجا من مشاعر
التـّحنان والمحبة والعواطف الإنسانية الجياشة المرتبطة بالبنوة، في
علاقتها بالأمومة. ولما قـُيّض لها (للموضوعة)، شاعر موهوب، من عيار محمود
درويش، صارت العبارات البسيطة تلمع كاللآلئ وتسطع كالنجوم، معبّرة ًعن
أنبل المعاني وأرق المشاعر. ولذلك يتجاوب المتلقي معها بشكل تلقائي، فيه
الكثير من الالتذاذ والمتعة.
من تلك اللآلئ، نقتنص:
ــ تكبر فيّ الطفولة.
ــ وأعشق عمري، لأني
إذا مت،
أخجل من دمع أمي.
ــ خذيني...وشاحا لهُدبكِ.
ــ غطي عظامي بعشب
تعمـّّد من طـُهر كعبك
ــ وشدي وثاقي..
بخصلة شعركِ..
ــ ...لمست قرارة قلبكِ !
عبارات
عذبة، جميلة، سهلة، إلا أنها موحية، مفعمة بالمعاني العميقة، والدلالات
ذات البعد الإنساني الشفيف ، عبارات مصوغة بشكل فني رهيف ، يسهم في إحداث
التأثير المأمول في القارئ.
ومن الدلالات المعبرة نقتنص أيضا :
ــ الحنين إلى "أشياء" الأم الحميمة المحبّبة (وخصوصا لمستها الحانية... ونمو الطفولة على صدرها )
ــ حب الحياة وتفضيلها، رأفة ً بالأم، وخجلا من دموعها عند الاستشهاد.
ــ أن يكون الابن وشاحا لهـُدب الأم (وهي من أجمل عبارات القصيدة، وتعبر عن علاقة الحب الاستثنائية التي تجمع بين الطرفين ).
ــ تغطية جسده بعشب تعمّد (ولفظة "تعمـد" ذات دلالة دينية تقديسية ، كما
هو معروف) من طهر الأم (وكأن العشب يتعمد ويتطهر بمجرد ما يلمسه كعب حذاء
الأم، وهي صورة رائعة للتقدير (التقديس) الذي يكنه الشاعر لأمه.
ــ شدّ وثاق الابن بشَعر، أو خيط من ثوب الأم لعله (الابن) يصير إلها
عندما ترضى عنه (يلمس قرارة َ قلبها، على حد تعبير الشاعر).
الخلاصة أن قصيدة :"إلى أمي" لمحمود درويش نموذج للشعر الجميل، السهل
الممتنع. وهي نشيد مؤثر لعلاقة طفل كبير (شاعر عملاق)، بأمه، وكل ما يتصل
بتلك العلاقة من مشاعر إنسانية عاليةِ النبل والسمو، في صياغة فنية جميلة،
ودلالات معنوية لا تقل عنها جمالا وروعة.
رحم الله محمود درويش، وتعازينا الحارة لأمه الفاضلة في فلسطين الحبيبة، ولكل محبي درويش وفنه الفاره.
محمد حجاجي
القصيــــــــــــدة
إلى أمي..
أحنّ إلى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسةِ أمي...
وتكبر فيّ الطفولة ُ
يوما على صدر أمي
وأعشق عمري، لأني
إذا متّ
أخجل من دمع أمي !
خذيني، إذا عدت يوما
وشاحا لهُدبكِ
وغطـّي عظامي بعشبٍ
تـَعـَمّـد من طـُهر كعبكِ
وشدّي وثاقي..
بخصلة شـَعرٍ..
بخيطٍ يلوّح في ذيل ثوبكِ..
ضعيني، إذا ما رجعتُ
وقودا بتنور ناركِ
وحبلَ غسيل على سطح داركِ
لأني فقدت الوقوف
بدون صلاة نهارك.
هرمتُ، فرُدّي نجوم الطفولةِ
حتى أشاركَ
صغارَ العصافير
دربَ الرجوع..
لِعشّ انتظارك..!
محمود درويش